الحديث عن الديمقراطية هو بلا شك حديث عن آمال الشعوب لبلوغ حقوقهم بحرية وكرامة وعدالة اجتماعية، هو حديث فضفاض يقودنا لسبر أغوار المجتمعات المتقدمة، فنتساءل حول ما إذا كان معيار تقدم أية دولة هو تقدّم تقني تكنولوجي محض أم أنه تقدم فكري ثقافي وسياسي أم هما معاً؟
والحديث عن الديمقراطية ما هو إلا شأن الذين يقلقهم واقع بلدهم، يحترقون بهمومه، يطرحون الأسئلة بحثاً عن إجابات تشفي الغليل داخلهم ويتأسفون لما آلت إليه مجتمعاتهم.
الحديث عن الديمقراطية هو حلم جميل ولكنه في نفس الوقت وَهْم يُغري العقول، فالذين يتحدثون عن الديمقراطية في الصالونات الفكرية، يتفلسفون ويُقدمون أطروحات نظرية ثم ينصرفون لحال سبيلهم وكأنهم لم يقولوا أي شيء هم يصنعون بذلك وَهْم "الديمقراطية"، فهذه الأخيرة ليست شعاراً يُرفع في الشوارع أو أنشودة تُردد في كل المحطات النضالية أو اللقاءات الحزبية وإنما هي فعل وممارسة، هي مشروع يفتح آمالاً واسعة ورهانات كبرى، هي أكسجين المواطنين باختصار، هي أمل المواطنين لطرد كل الآلام الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
أستغرب حقيقة لمناضل سياسي يتبجح بإيمانه القوي بالديمقراطية ودفاعه المستميت عنها في كل اللقاءات السياسية -وخصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي التي تنتج لنا أشباه المناضلين الديمقراطيين- وحين تقترب الانتخابات يكون هو السباق لإرشاء المواطنين وشراء الأصوات من عندهم، يكون هو الأول الذي يحرض المواطنين على عدم التصويت على حزب آخر بل ويشوّه سمعة حزب آخر معروف لدى المواطنين بديمقراطيته، وأكثر من ذلك فهو يهدد عبر رئيس جماعة ينتمي لحزبه سكان دوار إذا لم يصوّتوا لصالحه، ويغريهم بتسوية أوضاعهم الاجتماعية.. فهل هذا هو الديمقراطي؟
أتذكر في هذا الصدد إدريس لشكر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حين كان يتواصل مع المواطنين خلال الحملة الانتخابية ويحرّضهم على عدم التصويت لحزب العدالة والتنمية، وينبههم لما قد يؤول إليه وضع المغرب من وضع يشبه وضع سوريا إذا ما منحوا أصواتهم لحزب بنكيران، أتساءل فعلاً: هل هذا هو النوع الحقيقي من النخبة السياسية الديمقراطية التي يتوق إليها المواطن المغربي وهو الذي يئس بعد كل الذي حدث قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى حين إعفاء بنكيران وما زالت المهزلة مستمرة؟
أتساءل فعلاً: هل هذا هو نموذج المناضل "الديمقراطي" الذي يحتاجه المغرب؟ بل شبه مناضل يحضر اللقاءات ليحاضر في الديمقراطية وهو الذي لا يؤمن بالاختلاف واحترام التعددية؟ شبه مناضل يريد تكريس أيديولوجية الحزب الوحيد والتيار السياسي المهيمن في المشهد السياسي، شبه مناضل يدعو الشباب للمشاركة في الحياة السياسية وفي نفس الوقت يدعوهم لعرقلة عملية التصويت يوم الانتخابات وتزوير الأوراق، كل هذا حتى لا يفوز العدالة والتنمية بالرئاسة مرة ثانية؟
في الحقيقة يوم 7 أكتوبر كان يبدو لي ولبقية الشباب الذين يحبون الديمقراطية ويحلمون بها بأنه سيكون عرساً سياسياً، نتذوق خلاله حلاوة الديمقراطية من خلال حرية التصويت ومن خلال شفافية عملية فرز الأصوات دون تدخل الداخلية في هذه العملية، ولكن للأسف حدث ما لم نكن ننتظره، فذُبحت الديمقراطية، وصرنا أمام مشهد ذلقراطي كما يقول المهدي المنجرة رحمه الله، صرنا أمام مشهد لا يمكن وصفه إلا بالبئيس.
كثيراً ما نطرح موضوع الانتقال الديمقراطي في المناسبات السياسية والثقافية، بمعنى حاجتنا للانتقال من وضعية تهمش فيها الأحزاب ولا تمارس عملها باستقلالية ووضعية تهمش فيها حقوق الإنسان إلى وضعية يمكن اعتبارها ليبرالية من خلال تعزيز التعددية الحزبية، والمقاربة التشاركية واحترام حقوق الإنسان، فحاجتنا اليوم ليست للكثير من الكلام المنظّر والأفكار الجميلة وإنما للعمل والنضال الواقعي.
حين أستغربُ لعربي يعتبر نفسه ينشد الديمقراطية لا يعتز بعروبته، لا يقلقه ما يحدث في الأقطار العربية، لا يهتم للقضية الوطنية ولا للقضية الفلسطينية، فأنا أستغرب كذلك لمن ينشد الديمقراطية ولا يؤمن باحترام حرية التعبير والرأي التي يتضمنها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وكذا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، أستغرب لدولة تدافع عن الديمقراطية وفي نفس الوقت تمنع المواطنين من ممارسة حقهم في التظاهر في الشارع، فأتساءل: هل خطاب الدولة مزدوج؟ أم أننا إزاء شكل آخر من الديمقراطية نجهله؟
إن الدفاع عن الديمقراطية لا يمكن إلا أن يكون مدخلاً من مداخل الإصلاح، والذي لا يأتي إلا بتكامل عمل نظام الدولة والأحزاب السياسية والجهات والعمالات وجمعيات المجتمع المدني، فلا يكفي فقط تمنّي الديمقراطية دون العمل من أجل تحقيقها، والانتقال الديمقراطي ليس سهلاً، بل صعباً ويتطلب الكثير من الجهود والوقت.. فلا يمكن لدولة أن تحقق الانتقال الديمقراطي بين عشية وأخرى.. ولا يكفي التنظير فقط للأسس الديمقراطية.
وآمال الشعوب هي تحقيق الديمقراطية، فالمواطن لم يعد يطيق الانتظار في الإدارات المغربية، لم يعد بإمكانه الانتظار ساعات طوالاً للمصادقة على وثيقة في المقاطعة، هذا المواطن هو نفسه سئم من المشاركة السياسية، فلم تعد الأحزاب تغريه بتعزيز مشاركته، بل جعلته ييأس من متابعة الشأن الوطني، هو نفسه الذي مل من كثرة الوعود في الحملات الانتخابية فلم يعد يثق في أي حزب.
أتساءل فعلاً: إلى متى سنترك أفراد الشعب يُقتَلون بالإحباط فلا يقدرون على ممارسة مواطنتهم ولا نحقق الديمقراطية؟ إلى متى سنترك آمال الأفراد تقتل يوماً بعد يوما فتقتل معهم الديمقراطية المنشودة؟ إلى متى سنستفيض في الحديث عن الانتقال الديمقراطي ولا وجود لإرادة سياسية حقيقية لذلك؟
نتكلم قليلاً عن الصحافة وحرية الرأي، وأتساءل حقيقة عن أية ديمقراطية نريد تحقيقها والدولة لا تزال تكمم أفواه كُتّابها وصحافتها، ما زالت متشبثة بمراقبة مداد الصحفيين والحد من سيله؟ عن أية ديمقراطية نتحدث والصحفيون يُمنعون من الحصول على المعلومة والذي يعتبر حقاً دستورياً مسلّماً؟ صحفيون يُمنعون من تغطية أنشطة ووقفات احتجاجية، تُسلب منهم كاميراتهم وأوراقهم وتقاريرهم؟ صحفيون يُقمعون حتى لا يعبروا عن رأيهم بكل حرية؟
أقول إن الديمقراطية ليست كلمة، بل هي المواطنة والتشاركية والمناصفة والعدل والإنصاف والحرية وتطبيق القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة، كل هذه المفاهيم تأسس لديمقراطية أي بلد، ولا يمكن إلا أن تكتمل فيما بينها، وهذه لا يمكن اعتبارها إلا مسؤولية الجميع أفراداً وحكاماً وسياسيين ونقابيين وصحفيين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.