سلبية البرلمانية المغربية الجديدة: عناصر للفهم

يبدو أن طبيعة اشتغال المؤسسات وسمو بعضها على البعض في إنتاج الحلول وتدبير الدولة وإدارة الأزمات، يخلق نوعاً من السلبية والتقاعس لدى مؤسسات أخرى.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/09 الساعة 04:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/09 الساعة 04:02 بتوقيت غرينتش

سياق البرلمانية المغربية الجديدة

من أجل إعادة طرح سؤال البرلمانية المغربية، يجب طرحه في سياق دستور 2011 المرتهن بدوره إلى سياقات فورة اجتماعية ذات عمق سياسي حقوقي، عاشتها المنطقة العربية بشكل "مسرحي ميمي"، بدون أوراق إخراج صريحة أو سيناريوهات بناء واضحة، حيث غابت فيها الرؤية المحددة للإجابة على أسئلة ومفاهيم الدولة والمجتمع والسلطة والوسائط، وطغت فيها نبرة الغبن و"التغابن الجماعي" على ظلم بعضهم البعض وعلى "تفرعن" حاكم الماضي، بدون تقديم بديل آمِن ومؤمن للمستقبل من مخاطر سياسات الماضي.

داخل سياق كهذا للتظلمات والمظالم، وعلى "خشبة الشوارع الكبيرة"، للتعبير الشعبي المتفجّر عن مشاعر الغبن السياسي وما رافقه من غبن "خبزي" معيشي في المنطقة، كان الرد والمخرج في المغرب هو تقديم كمية جديدة من التدابير لإدارة إصلاح الدولة، من منظور الإبقاء على هرم المؤسسات في أساسه القديم، تهدف في مجملها إلى إعادة ترميم وصياغة المؤسسات الدنيا داخل هرمية الدولة، من خلال إنتاج روابط وجسور جديدة فيما بينها، تروم توسيع قواعد العلاقات التفاعلية فيما بينها بشكل قد يعطي الدينامية المطلوبة من أجل التطور المنشود في بناء صرح دولة تحترم القانون وتقف على حقوق الجميع.

من بين أهم ما ميز الإنتاج المعياري الجديد هو تبنّي شكل النظام البرلماني في شقه المرتبط بإعادة تأسيس شرعية ومشروعية رئاسة الحكومة، في ارتباطها بالبرلمان وتمكينها من آليات قانونية جديدة لممارسة السياسة وإنتاج السلطة. تميز أيضاً المنتوج الدستوري الجديد بمنح مساحة حركة جديدة للبرلمان بتوسيع مجاله المحفظ دستورياً في إطار ثلاث وظائف رئيسية ومحورية؛ المساهمة في إنتاج السياسة الوطنية العامة من خلال التشريع والاقتراح في فروعها الكبرى، ثم ممارسة نوع من المحاسبة الضبطية للمخالفات والاختلالات التنفيذية، وأخيراً وظيفة التواصل والوساطة المجتمعية على أمل الإصرار على نشر ثقافة القانون داخل الدولة وانبثاقاتها داخل المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى وضع الدولة أمام الصورة الحقيقية للمجتمع وتطلعاته من خلال الحوار المؤسساتي العام.

غداة تبنّي دستور 2011، أقر الجميع بأن البلاد تعيش وضعاً استثنائياً، فتبنّت دستوراً اعتبر وقتها استثنائياً، سواء في سياقه أو في خطته المؤسساتية والقيمية، وبذلك كان يتعين على أول حكومة وأول برلمان في زمنه أن يشتغلا أيضاً بنفس الروح الاستثنائية للبناء وألا يتم طيّ صفحة السياق العام والخاص بمجرد ظهور نتائج انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2011، لتعود الأحزاب التي تحمل جينات ولادة إدارية سياسية لما قبل الزمن الدستوري الجديد إلى ممارسة ثقافة تدبير علاقاتها على إيقاع قواعد الزمن السابق، وتعود للتنافس الحاد والاصطفاف الحزبي وإلى منطق أغلبية معارضة بحجة أن الديمقراطية تقتضي ذلك، في الوقت الذي مرّت فيه كل تلك الأحزاب من زمن ما قبل 2011 المشوب بعيوب "الرضا والتعاقد السياسي"، إلى زمن الدستور الجديد بنفس القيادات ونفس النخب والبروفايلات ونفس العقليات، بدون عقد مؤتمرات مواكبة للعهد الدستوري الجديد وللسياق المنفجر، لإنتاج قيادات جديدة تتماشى مع زمن الربيع.

فكان أن فشلت الحكومة الأولى في الولاية التشريعية الأولى لما بعد دستور الربيع في تنزيله كما ينبغي، وفي خلق الإجماع والتوافق، فعاشت البلاد فترات تعطل للمؤسسات وللإنتاج التشريعي والتنظيمي، من خلال رفض متبادل بين المؤسسات، والمبادرات والمبادرات المضادة، بل وتوقفات طويلة الأمد بسبب اصطفافات داخل الدولة لم يستطِع الحزب الأغلبي آنذاك أن يخترقها ويتبنى منطق التوافق والتشارك الحقيقي، لسبب شخصي بسيط، هو الخوف على صورته من التلطخ بسبب الصورة الأخلاقية والرمزية التي قدمها للمجتمع، وبالتالي الخوف من فقدان المساحات الانتخابية، وبذلك جسد أنانية سياسية استغلها خصومه جيداً، فبدل الانكباب على معالجة وإصلاح الدولة من خلال مبادرات جديدة وأفكار مبدعة، أصبحت البلاد تعيش معارك الوجود السياسي والاعتراف، وغيرها من معارك تواصلية إعلامية استهلكت زمن الدولة التشريعي لفائدة زمن الفرجة السياسية، كل هذا جعلها ولاية تشريعية سلبية جداً وانطلاقة غير سليمة لما بعد دستور 2011.

الأداء البرلماني: التقاعس وانعدام الفاعلية.. الأسباب العميقة

مؤكد أن الأسباب الكامنة وراء الأداء البرلماني المغربي غير المقنع وغير المواكب، عميقة جداً ومتعددة وليست مرتبطة فقط بمزاج المنتخبين أو ضعف بروفايلاتهم، بل تتعداه إلى أبعد من ذلك، لتلامس طبيعة النظام السياسي؛ منطق اشتغال الأحزاب السياسية وإلى منظومة القيم المجتمعية ككل.

هذه العناصر الثلاثة تساعد على فهم وعلى إدراك الواقع البرلماني والمؤسساتي ووصفه بشكل سليم إلى حد بعيد.

حول النظام السياسي

يبدو أن طبيعة اشتغال المؤسسات وسمو بعضها على البعض في إنتاج الحلول وتدبير الدولة وإدارة الأزمات، يخلق نوعاً من السلبية والتقاعس لدى مؤسسات أخرى.

معروف أن السياسي أو السياسة من خلال الممارسة الانتخابية والتمثيلية يفترض فيه أن ينتج السلطة وأن يمارسها، بعد تصدره المشهد عن طريق الاستحقاق العام، يمارسها عن طريق إحكام السيطرة السياسية على مراكز إنتاج القانون والتنظيم لتنفيذ تصوراته ورؤاه في بناء هياكل الدولة والمجتمع، طبقاً للخطة الديمقراطية.

غير أن الوضع في المغرب مختلف، ذلك أن المؤسسة الملكية، من تمتلك جوهر السلطة الحقيقية، غير خاضعة للمزاج الانتخابي، وغير مصنفة ضمن هرمية مؤسسات التدبير العادي، بل هي مؤسسة عليا، منتوج حصري للتاريخ ولصراعاته الطويلة، تشتغل ضمن كثافة أعرافها التأسيسية الممزوجة بالقاعدة القانونية العصرية، فيما يتعلق بإدارة مرؤوسين كبار موكولة إليهم مهام تصريف شؤون الرعية، بعد رضا الرعية عنهم عبر الانتخاب، ومنهم مَن هو غير خاضع لهذا الرضا باعتبار الملك هو أيضاً ممثلاً أسمى للأمة وللشعب ومعبراً عن إرادته ومجال تدخله غير محصور في سلطة واحدة، بل يتعداه إلى الممارسة، طبقاً للقانون وحسب الحالات والظروف، إلى كل جسد الدولة من خلال توجيه "رؤوسها" المعروفة، القضائي التشريعي والتنفيذي، وقد تجلّى هذا بشكل واضح في تدبير احتجاجات الريف للسنة الماضية.

من هذا المنظور تولدت لدينا تنفيذية سلبية، تنتظر التوجيه وتخشى المبادرة، برلمانية سلبية تمارس ردود الفعل ولا تقوى على المبادرة الحقيقية، تحت حجة دفينة وغير معلنة وهي أن الملك الوحيد من يمكنه سبر أغوار كل المشاكل لحلحلتها، وأنه سيتدخل في الوقت المناسب لممارسة السلطة الحقيقية لقيادة الدولة، هذه الذهنية وهذه الثقافة خلقت نوعاً من عدم الإحساس بالمسؤولية، ونوعاً من "الفزع" والتردد على الإقبال على المبادرة، مخافة معاكسة توجهات الملك ومخافة "غضبه وعدم رضاه"، ولن يضيرهم شيء إذا ما تحملوا مسؤولياتهم كما ينبغي وأبدعوا الحلول وامتثلوا للدستور وللقوانين.

هناك أيضاً أمور أخرى تجعل من مؤسسة البرلمان مؤسسة غير محددة الهوية، هل وجودها مرتبط بإتمام عمل السلطة العليا للبلاد، باعتبارها أيضاً تمارس مهمة تمثيل كتلة للناخبين وباعتبارها تتلقى توجيهات عند بداية كل سنة تشريعية؟ هل موقعها هو من أجل مساعدة الحكومة نظراً لكون الحكومة صاحبة اليد العليا في تقديم مبادرات التشريع محصنة بعدة نصوص تحد من تدخل البرلمان في عملها أم من أجل مراقبتها ومحاسبتها ومجازاتها إن اقتضى الحال الشيء الذي يحتاج إلى توافر شروط صارمة لذلك؟

الأحزاب السياسية.. أي علاقة بهذه الأزمة؟

سؤال الحزبية المغربية ليس ببعيد عن أزمة العمل البرلماني وتكريس الفشل والضعف. وكما يرى عدد كبير من المختصين في الشأن السياسي المغربي، تكمن أهم الاختلالات في المشهد السياسي المغربي، في ضعف وفتور القوى الحزبية، سواء من منظور تنظيمي أو خطابي أو تأطيري.

نحن أمام ظاهرة حزبية غريبة وتكاد تكون هجينة وغير قابلة للتصنيف في إطار التصنيفات السياسية المقارنة، ذلك أننا إزاء أحزاب سياسية فقدت القدرة الفكرية والنظرية على التعرف على ذاتها، أحزاب لا تملك القدرة على تحديد هويتها النظرية والسياسية بين التصنيفات الكبرى؛ الليبرالية، الديمقراطية الاجتماعية، الإسلامية إلى غير ذلك.

أمامنا أحزاب تؤمن بالليبرالية وتتبنى قاموس الاشتراكية والأحزاب الاجتماعية، أو العكس، أحزاب ذات عمق تأسيسي اشتراكي يساري وتتبنى خطاب الليبرالية، وأحزاب أخرى لا تتبنى أي توجه وليس لها أي أفكار واقعية عن مرجعيتها النظرية والسياسية، وهكذا تتوفر لدينا جملة من التناقضات الهوياتية الحزبية في المشهد.

ما يميز الحزب السياسي هو تملكه للأدوات الفكرية والسياسية لإنتاج نفسه، لإنتاج خطابه المتميز، لإنتاج نموذج المناضل المتوغل في المجتمع ثم قدرته على صناعة الأطر المأمول فيها تدبير الشيء العمومي عن طريق التكوين والتدريب والتأطير السياسي والحقوقي القوي.

أحزاب سياسية لم يعد لها ذلك الدور الإنساني الفلسفي الاجتماعي الوجودي، لم تعد تهتم ببناء تصورات نظرية بمساعدة المثقفين بقدر ما ترى في ذواتها مجرد موجودات سياسية استسلمت لفكرة أنها صنعت لأداء مهمة داخل الزمان والمكان ولمطابقة خطاب الدولة، تهدف إلى محاصرة أي تيار غير منصاع للتوجهات التقليدية للدولة أو للذي يسعى إلى بناء محاولات لتغيير قيم تداول السلطة.

أحزاب المهام les partis missionnaires هذه ليست لها مرجعيات دقيقة وواضحة وليس لها خطاب متميز ملائم للعهد الجديد وللتحديات المطروحة في زمن العولمة وفي زمن ما بعد ما سُمي بالربيع الديمقراطي أو العربي، أحزاب لا يهمها صناعة مناضل متشبع بالثقافة الحقوقية ومكون نظرياً على المحاججة والمرافعة من أجل القضايا المجتمعية، أحزاب ليس لها أي تصور عن المجتمع التي تريد وعن المدرسة والمقاولة والمحكمة وغيرها، اللهم إلا تبني بعض العناوين الفضفاضة، مستعملة ثقافة الجينيريك بدون عمق نظري وفلسفي، أحزاب تواصلها الوحيد هو خلال فترة الانتخابات، برامجها مجرد إعلان نوايا ومبادئ عامة، أحزاب هدفها هو التضخم العددي الانتخابي بدون تأطير وتكوين وإعادة تربية على مفهوم الدولة والمواطنة، أحزاب تبحث عن زبائن انتخابية في عملية شبيهة بالمعاملات التجارية، تضم في صفوف قيادييها بورجوازية غير مواطنة، تبحث عن الزبائن الكبار من رجال الأعمال والمال بدون أي تكوين على مفاهيم العمل السياسي من داخل مؤسسات عمومية لا تتوخى الربح المادي في فلسفتها؛ أمام هكذا أحزاب عن أي برلماني يمكن الحديث؟ الجواب واضح.

برلماني غير مكون غير مدرب على المبادرة على التفاعل على تقبل النقد وتدبير الاختلافات، غير واعٍ بأولويات بلاده مهتم فقط بمصلحته الشخصية التي ينصرف إليها مع أي احتكاك مع مصلحة حزبه وبلده.. إذن نحن إزاء بناءات غير سليمة من وجهة نظر فكرية وفلسفية وسياسية، نحن أمام أحزاب غير قادرة على إنتاج خطابها وذاتها وبالتالي لن تكون قادرة على إنتاج وقود بشري يبني المؤسسات ويطور الأداء.

منظومة القيم.. الغائب الأكبر في تحليل أزمة الذهنيات السياسية والمؤسساتية

تلك مسألة أعمق تشمل المجتمع والدولة ككل، منظومة القيم مرتبطة أساساً بمنظومة التربية والتكوين وبالقيم الاجتماعية التداولية داخل بنيات الدولة. فبعدما كان المجتمع متميز بقيم العمل الجماعي والتفاني والتطوع بشكل كبير غداة الاستقلال، وقع عبث بالمنظومة بفعل السياسة وبفعل عدة عوامل متداخلة خصوصاً منذ الثمانينات وبداية العمل بالتقويم الهيكلي، وما تلاه من إصلاحات اقتصادية سريعة أهمها خصخصة المرافق العمومية وبداية تخفيف تدخل الدولة في تدعيم الحاجات الأساسية.

لم تكن تلك الإصلاحات ذات بعد اقتصادي وحسب، بل حملت في طياتها برمجة جديدة لإعادة صياغة المنظومة التربوية والقيمية وأنتجت هوية فردية وجماعية ملتبسة، وثقافة فردانية قوية، ثقافة البحث عن الربح السريع وعن "الهمزة"، ومن بين نتائجها أيضاً ارتفاع العنف بسبب فقدان الأفراد القدرة على التعرف على بعضهم البعض هوياتياً، وكأن الجماعة المغربية هي جماعة بشرية ولدت اليوم فقط، لا يتقاسم أفرادها هوية ثقافية وقيمية جامعة، ولم تعد القيم السابقة مؤطرة للسلوك وأصبح الهم اليومي للأفراد، هو صيانة المصالح الخاصة حتى وإن كانت مضرة بالجماعة المغربية ككل. لا شك أن هذه التحولات الثقافية الكبرى وتغير منظومة القيم من "المعمم" إلى المخصخص" من الجماعي إلى الفردي، من التطوعي إلى العمل بمقابل من النضالي إلى الزبوني، لا شك أنها عوامل أثّرت على السياسي وجعلت منه أحد التعبيرات الواضحة عن خلل منظومة القيم، الشيء الذي ساهمت فيه الأحزاب بشكل كبير باعتبارها أهم قنوات لتصريف النخب نحو المسؤولية وتطعيمها فكرياً وثقافياً وإحدى أهم بنيات التنشئة السياسية.

من هذا المنطلق، يعد البرلماني منتوجاً لنظام اجتماعي وسياسي قائم، ولا يمكنه إلا أن يكون صورة نموذجية "مخلصة ووفية" للمجتمع ككل. انشغاله الرئيسي هو معالجة سؤال التواصل من منظور تلميع صورته أمام كثرة الانتقادات، سؤال تتم الإجابة عليه تقنياً في أغلب الحالات بدون روح، بحيث يتم اللجوء إلى وسائل التواصل وأدوات الإعلام والإشهار لحجب صورته الحقيقية السلبية وتقديم صورة سكيزوفرينية، افتراضية خيالية غير مستقيمة مع أدائه الحقيقي داخل المؤسسة النيابية. ومهما حاول تغطية الحقيقة باللجوء إلى أدوات "التبييض الإعلامي والإشهاري"، فإن ذلك لن يغير من حقيقة ضعفه الملموس في الأداء، وفشله في تقوية النقاش العمومي حول القضايا الأساسية للبلاد وللمواطن.

إضافة إلى كسله الشديد أمام تفعيل القاعدة القانونية وأجرأتها وقبل ذلك إعطاء المثال باحترامها. معظم مقترحات القوانين الصادرة عن البرلمانيين خصوصاً في المعارضة هي فقط لتضخيم كمية المنتوجات والإفرازات أمام الرأي العام، ومعظمها للمزايدة السياسية على الحكومة وأغلبها غير مقبولة من الناحية العلمية الليجيستية legistique أي من وجهة نظر الصناعة التقنية التشريعية للقاعدة القانونية، بمعنى أنها لا تعدو أن تكون مجرد مجموعة جمل إنشائية تعبر عن مجموعة من المبادئ لا تحترم نظام الجملة القانونية ولا تعتمد على دراسات متنوعة قبل إعدادها، ولا تحترم باقي المنظومة القانونية الموازية أو العليا، كما تخرج في كثير من الأحيان عن القيم الجماعية.

فمثلاً تقدم الاستقلاليون في عهد شباط بمقترح قانون يجيز الترخيص لزراعة "الكيف"، بدون أي دراسة مالية أو اجتماعية ثقافية أو ديمغرافية، بحيث إنه اقترح إجازة هذه الزراعة في شمال المغرب فقط، الشيء الذي قد يحدث نزوحاً وهجرة كبيرة نحو هذه المناطق وما قد ينتج عن ذلك من تحولات وصدامات ثقافية ومشاكل ديمغرافية وسكنية وغيرها.

ثم إن المقترح استعمل كلمة "الكيف" ذات الدلالة غير العلمية وذات البعد الأخلاقي الرمزي في المخيال الشعبي مرتبط بالحلال والحرام، في حين أن المصطلح العلمي المتعارف عليه دولياً هو القنب الهندي، هذا فقط من أجل إحراج حزب العدالة والتنمية ذي "المرجعية الإسلامية" مما يجسد استعمالاً شعبوياً للمؤسسات الدستورية. وهناك أمثلة كثيرة جداً منذ أول ولاية تشريعية في المغرب؛ حيث مثلا تقدم نواب عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ذي المرجعية اليسارية التقدمية حسب تصنيفهم لأنفسهم حينها، بمقترح قانون يروم منع الاتجار واستهلاك المشروبات الكحولية من أجل إحراج حكومة لفديك المقربة من الملك أمير المؤمنين.

والخلاصة أن عدداً كبيراً من التشريع المقترح غير جديّ وغير مدروس وضعيف البناء اللوجيستي وغير ملائم لحاجات المجتمع ذات الأولوية في الزمن الاجتماعي الراهن.

العمل البرلماني هو عمل لا ينظمه القانون البرلماني فقط؛ لكون هذا القانون هو تقني بشكل كبير. بل أيضاً تؤطره مجموع القواعد الدستورية التي تعترضها دائماً معضلة عدم التطبيق أو عدم التطبيق السليم.

العمل البرلماني يقتضي ضرورة التوافق حول تصورات حزبية أساسية جماعية للعمل من داخل البرلمان، تعتمد على قراءات للوضع العام وعلى دراسات للحاجيات التشريعية ذات الأولوية وعلى بلورة مساهمات في صناعة السياسة الوطنية العامة.

فالبلاد عاشت السنة الماضية على وقع احتجاجات اجتماعية أهمّها في الريف، من هنا نتساءل: هل يضع النواب عند كل دخول تشريعي، أفكاراً جديدة في محفظاتهم من أجل عرضها على المناقشة وعلى الحكومة قصد تفادي أزمات كهذه في مناطق أخرى في المستقبل؟ كيف يفكّر البرلماني في أن يكون فعلاً ممثلاً ووسيطاً اجتماعياً بالتشارك مع الحكومة لتدبير الملفات الكبرى بدون مزايدات سياسية أو نظرة حزبية ضيقة؟ هل أعدت الفرق النيابية استراتيجيات للتشريع وللتواصل مع مختلف الشركاء في السياسات القطاعية ومع المجتمع بالاستفادة بخطط وتراكمات التجارب المقارنة؟ هل تشتغل المؤسسة الحزبية على تغيير ثقافة وذهنيات نوابها أم تسهم معهم في تنمية ثقافة الريع وحس تحصين المصلحة الشخصية؟ ما هي خططه لفك الاشتباكات المتكررة بين الدولة والمجتمع في قضايا حساسة كثيرة؟

هذه أسئلة ليست على سبيل الحصر، بل هناك أخرى كثيرة ومتنوعة، إذا ما تمت الإجابة عنها بصدق وبحس وطني وإنساني حقيقي وعميق، ربما عندها قد يترقى لدينا هذا "المجمع البشري" المنقسم والمرتبك والفاقد للبوصلة إلى صفة برلمان جدير بهذه الصفة التي صنعها التاريخ بتضحياته وصراعاته المريرة، جدير بحمل اسم مؤسسة نبيلة وعريقة خدمت أجيالاً من التطور والرقي، وبنت أمماً وقوى عظمى وصلت إلى عنان السماء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد