أظهر الربيع العربي القومية كإطار فكري بشكلها الحقيقي، على زيفها، ليس لديها مرجعية إنسانية أو أخلاقية، تجلى ذلك واضحاً بوقوف القوميين العرب مع الأنظمة القمعية العروبية التي أنكرت حقوق الشعوب بالتغيير، ووقفت إلى جانب حكم العسكر، في حين تعاطف غير القوميين مع الشعوب الثائرة الحالمة بالتغيير.
فشلت تلك الشعوب في الانتقال الديمقراطي بعد ثورات الربيع العربي، وتمت إعادتها إلى حظيرة الطاعة، ومع تنامي ظاهرة الإرهاب، ظلت قضية القدس عالقة، ثم ثبت يوماً بعد يوم بما لا يدع مجالاً للشك أنها ليست قضية قومية البتة، وما الشعارات التي رفعها الحكام العربويون إلا لتثبيت سلطانهم الديكتاتوري وإكسابه صبغة تعطيه هيبة وتجعل من الحاكم -المستبد- المدافع والمنافح عن القضية المزعومة، فظلت القضية الفلسطينية بشكلها القومي حاضرة في ذهن الأمة عروبياً، لكن بشعار "الشعب العربي وين، الدم العربي وين؟"، فكان تقدمها جلياً، إلى الوراء.
كل القوميين الذين رفعوا شعار عروبة القدس كنظام الأسد، بشار ومن قبله حافظ، ميوله الفارسية واضحة، تجلى ذلك بمساندة الميليشيات الشيعية له، التي حافظت عليه حتى الرمق الأخير، فكيف تكون القدس عربية، ويتم الدفاع عنها من منطلق عروبي، في حين أن حماتها المفترضين أول من تحالف مع غير العرب في قمع شعوبهم، وبقية القصة تعرفونها، فإن ادعى القوميون بأن تحالفهم مع الفرس يأتي لدحض إرهاب متنام، فإن الجواب جاهز، نخرجه من درج التاريخ، فقد كانت الدولة الفاطمية -الفارسية- أول من أعان على احتلال القدس من قبل الصليبيين في حربهم ضد القدس، المقدسة، وكان الأيوبي الكردي أول من وقف في وجوههم.
واليوم مع اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، كان الصوت الأعلى الرافض لهذا القرار ليس قومياً، ولا يمت لها بصلة، فقد خرج مئات الآلاف من الأتراك في مدينة إسطنبول في مظاهرات رافضة لقرار ترامب، أما الصورة التي كانت صادمة بحق فهي صورة المظاهرات في مدينة ديار بكر "آمد" الكردية، وفي جاكرتا لم تكن الصورة مختلفة، بالإضافة إلى مدن وعواصم عديدة لا تمت إلى العروبة بصلة.
وهذا يكشف زيف القومية العربية كإطار فكري ويظهرها منظومة تحمل تناقضاً واضحاً في طياتها يتمثل بتبني الشيء وضده في آن واحد، فهي تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني وعاصمته القدس وتنكر حقوق شعبها، وترفع شعاراً قومياً عربوياً وتتحالف مع غير العرب على العرب، ومن ثم تعرب القدس، في حين أن أهمية القدس كمدينة تأتي بالدرجة الأساس بما تمتلكه من أماكن مقدسة، إسلامية كانت أم مسيحية.
لنكن واقعيين مع أنفسنا قبل القدس دون أن ندعي التواضع، العرب أكثر من "يثرثر" بالقضية الفلسطينية، لكن فلسطين بعمرها لم تكن قضية قومية، هي دينية فحسب، والنموذج الماثل للعيان لإثبات ذلك هو صلاح الدين الأيوبي، أول من أعاد للقدس هيبتها ولم يكن عربياً.
وفي التاريخ المعاصر، فإن قصة الحاكم العثماني السلطان عبدالحميد الثاني من البديهيات، فقد رفض بيع فلسطين لرئيس الوكالة اليهودية ثيودور هرتزل الذي قدم إلى إسطنبول في يونيو/حزيران 1896 وحاول لقاء السلطان عبدالحميد الثاني لإقناعه بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، مقابل سداد ديون الدولة العثمانية بشكل كامل، فقال السلطان قولته الشهيرة: "والله لئن قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلى عن شبرٍ واحد من فلسطين".
إن محاولة عربنة القدس وتحويلها إلى قضية عربية فقط، هو إفراغها من محتواها، وتمييعها، خصوصاً أن التجربة القومية بشكلها العروبي أثبتت فشلها الذريع كان أوله إجهاض التغيير السلمي الذي نادت به الشعوب العربية، فقد كان وعاظ القومية هم عرّابي الثورات المضادة، قبل أن نتحول إلى ظاهرة الإرهاب العالمي، ثم لم يعد رفع شعار القدس القومي مجدياً، خصوصاً أن التجربة القومية العربية منذ أيامها الأولى وإلى الآن لم تورث أي اقتصاد، ولم تحقق رفاهية لشعوبها كما لم تشهد حرية، ولا أدنى ديمقراطية، فكيف تكون القدس العربية؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.