غياب الدولة من غياب المقدس

قيل لبعضهم: من أين يُعلن الخراب عن حضوره؟ أجابوا من رداءة البيئة والنفوس، وبشرياً من غياب قيَم الولاء لدى المهيئين للمساومة من جهة وتساهل الطيبين مع الخبثاء من جهةٍ أخرى، وهذا يعني أن الشرخ الذي حصل في اللحظة المصيرية في إقليم كردستان لم يكن وليد أوانه، إنما لعل حاضنة الخراب كانت مهيَّأة لإحداث ذلك الصدع من قبل، طالما لم يكن ثمة إجماع لدى أهل البيت على الولاء للتراب ومجمل المقدسات.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/18 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/18 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش

قيل لبعضهم: من أين يُعلن الخراب عن حضوره؟ أجابوا من رداءة البيئة والنفوس، وبشرياً من غياب قيَم الولاء لدى المهيئين للمساومة من جهة وتساهل الطيبين مع الخبثاء من جهةٍ أخرى، وهذا يعني أن الشرخ الذي حصل في اللحظة المصيرية في إقليم كردستان لم يكن وليد أوانه، إنما لعل حاضنة الخراب كانت مهيَّأة لإحداث ذلك الصدع من قبل، طالما لم يكن ثمة إجماع لدى أهل البيت على الولاء للتراب ومجمل المقدسات.

لذا فلكي يتقصَّى الناظر أسباب وما وراء أسقام الملة، شعبه على وجه الخصوص، فمن البديهي أن يُمعن النظر بأحوال جيرانه، يُعاين تجارب من كانوا بحكمهم سواءً أكانوا على مرمى حجرٍ منه أو بعيدين عنه بكيلومترات أو أميال، وذلك حتى يلاحظ عبر مرآة معاشهم بعض ما غاب عنه من علل الذات، وإلاَّ فبدون المعاينة وهذه المقارنات، فإن الذي لا ينهل لا من تجارب الآخرين، ولا يتّعظ من انتكاسات الذات فهو حينها يكون ممن يقيم في الجهة الخاطئة من الوعي بكينونته.

والذي دفعني للمقارنة بين أنانا الجمعية وأنوات الآخرين هو ما جرى في كركوك في 16 من شهر أكتوبر/تشرين الأول، وكذلك ما لاحظته في ذكرى يوم تأسيس الجمهورية التركية يوم الأحد 29 أكتوبر/تشرين الأول، إذ وفي الوقت الذي كان يعقد فيه برلمان كردستان جلسته المغلقة لاتخاذ قرارات تخص موقع رئيس الإقليم وتوزيع صلاحياته بعد رفضه تمديد فترة ولايته، وفي خضم متابعتنا المجريات في الإقليم عن بُعد، وذلك في بهوٍ بمنطقةٍ قريبة من ميدان بكر كوي في مدينة إسطنبول التركية، صادف أثناء خروجنا من البهو أن سمعنا أصوات الموسيقى تصدح عالياً وتملأ المكان، فكانت ملامح وأجواء حفلة موسيقية صاخبة في ميدان بكر كوي؛ حيث تحتفل تركيا بالذكرى الـ94 لإعلان الجمهورية على يد مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، وقد أقيمت بهذه المناسبة فعاليات مختلفة في أغلب المدن التركية.

حينذاك مضينا صوب الميدان لا من أجل الفُرجة أو المشاركة بالحفل، إنما للعبور من الساحة إلى الطرف الآخر من الميدان، ولكن قبل أن تطأ أقدامنا الساحة بحوالي خمسين متراً بدأت الفرقة الموسيقية بعزف النشيد الوطني التركي، فرفرف وقتها العلم التركي في الساحة عالياً مع بدء العزف، وما جعلني مشدوهاً أمام ذلك المشهد هو أنه ولمجرد أن بدأ البيرق يرتفع، والنشيد الوطني يُعزف، حتى تسمَّر في مكانه كل من كان واقعاً تحت أنظاري، وانتصب كالسارية كل من كان موجوداً في الأزقة المؤدية إلى الساحة، التزموا الصمت والسكون جميعاً إلى أن انتهى عزف النشيد الوطني، حتى عادت الحركة إلى أطراف الذاهبين والآيبين، عندها التفتُّ لمن كان معي وقلتُ: إن من يحترم علمه ونشيده إلى حدود التقديس، يحق له أن يكون صاحب دولة حتى ولو لم يكن من أهل هذه الجغرافية من غابر الأزمان.

وبعيداً عن ملابسات الخيانة الكبرى في كركوك، التي تحدث عنها رئيس الإقليم في سياق كلمته مساءً في نفس يوم الاحتفال التركي، فإن ما رأيته ولمسته وقتها في يوم تأسيس الجمهورية التركية في ذلك الميدان، كنا قد رأينا من خلال وسائل الإعلام ما هو عكسه تماماً في كردستان العراق، إذ لا يُخفى على أحد أن الكثير ممن يتبوّأن المواقع السياسية في الإقليم كانوا دون مستوى المواطن التركي العابر فيما يتعلق باحترام العلم، والنشيد التركي، وتقديره للرموز، إذ يعرف الكثير في إقليم كردستان وخارجه أن ثمة قادة كُتل سياسية بأكملها في برلمان كردستان لا يحترمون لا علم كردستان، ولا نشيده، ولا حتى الرمز مصطفى البارزاني، ومع ذلك لهؤلاء حشدٌ يسير خلفهم في شوارع الإقليم!

ومع أن تركيا أكثر تطوراً من الإقليم في الكثير من نواحي الحياة، كما أنها أكثر ديمقراطية من الإقليم، ولكن مع ذلك أكاد أجزم بأنه لو كان في البرلمان التركي من لا يحترم العلم والنشيد الوطني ورمزهم الأكبر مصطفى كمال أتاتورك لجاء مَن يرمي بأولئك البرلمانيين إلى الخارج كما تُرمى المقززات من دون ندم، إلا أن في إقليم كردستان فإن من لا يحترمون العلم، ولا النشيد، هم لا يزالون من الكتل التي تعطل عمل البرلمان كله، ومع ذلك ليس في الإقليم وإلى الآن من يتطوع لينظف البرلمان منهم!

وحيال ذلك فيا ترى إذا ما كانت ثمة شريحة ما من الشعب أو بعض قادة أحزابه لا يحترمون مقدساتهم كحال زعيم إحدى الجماعات السياسية فيه، وفوقها يأتي ممثل لحركةٍ ما في ذلك المجتمع وبكل صفاقة وأمام الملأ يستخف ويهين مَن يحمون عرضه وشرفه في الجبهات بدلاً من شكرهم والانحناء أمام نُبل مساعيهم، فهل من اليسير لذلك الشعب الذي لم يصل بعض قادة الرأي فيه إلى حالة المواطن التركي البسيط في احترامه لرموزه، وتبجيله لمقدساته، وذلك بأن يحقق الساعي مراده في بناء وطن؟

وكيف لذلك الشعب بناء دولته وبعض قادة أحزابه هم دون مستوى ما يمتلكه من الحس القومي فرد من العوام في دولةٍ مجاورة؟ ناهيك عن وجود ذلك الشعب وسط مجموعة أنظمةٍ ليست إلا كواسج وقروش بالنسبة للكردي، وطبعاً في ظل الغياب التام لأي مساند إقليمي أو دولي حقيقي، وليس دعم تصريحاتي كما هو حال الدول الغربية التي تدّعي رعاية الديمقراطية وحقوق الإنسان فقط في وسائل الإعلام، فيما تناهض أغلب ما تلوّح به وتدعو إليه واقعياً.

وفي الختام ليس لنا إلا أن نعيد قول الشاعر بشار بن برد: "متى يبلغُ البنيانُ يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرُك يهدم"، فكيف إذن سيبلغ البارزاني وأقرانه شطوط السيادة والإباء في ظل وجود عشرات الانتهازيين والمهيَّأين للمساومة والبيع ممن لهم نفوذ لا بأس به في الإقليم، وممن لديهم الاستعداد الدائم من باب النكاية إلى هدم ما يبنيه الغير في أية لحظة؟ كيف تتقدم عربة الشموخ نحو العلالي؟ وسط أناسٍ لا يشغلهم موضوع الكبرياء بشيء، بما أنهم كرمى المنافع الشخصية انطربوا لنغمة التبعية واستساغوا مواويل الخنوع إلى أمدٍ غير منظور، وكيف يبني الكرد وطناً؟ طالما أن ثمة أقطاباً في ذلك المجتمع يعاني واحدهم من قصورٍ في الوعي القومي والوطني، وهو في ذلك لا يزال دون منزلة شخصٍ عاديٍّ من الدهماء في باقي دول العالم؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد