رحلتي إلى فلسطين “الفرع 235” “2”

أغلق السجان الباب واستدار المعتقلون ناحيتي مرحبين بي، كانت وجوههم نضرة بيضاء، رغم الكدمات التي عليها مبتسمين، رغم آلامهم طمئنوني بكلامهم، وأتوا لي بما تبقى من طعامهم القليل أصلاً وبعض المياه، جلست آكل وكأنني أول مرة في حياتي أرى الخبز اليابس اللذيذ، وهم ينظرون إليّ مشفقين على حالي.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/15 الساعة 01:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/15 الساعة 01:57 بتوقيت غرينتش

عند الساعة التاسعة صباحاً، وبعد أن تعب السجانون من التعذيب الجسدي على المعتقلين، وبعد أن أعياني أنا التعذيب النفسي بانتظار مصيري المجهول، يصرخ أحد الضباط على السجانين ويقول لهم: أخرجوا الموقوفين في الزنزانة رقم 9، أي نحن، فظننا أن دورنا للكهرباء قد حان، لكن قال لنا السجانون وهم يخرجوننا ويشتموننا ويدوسون على كرامتنا: إن حظنا جيد؛ لأننا لم نبقَ، فعرفنا أنهم سيقومون بنقلنا إلى فرع آخر.

تم جمعنا وأخرجوا معتقلين آخرين من زنزانات أخرى حتى بلغ عددنا حوالي 35 معتقلاً، بتهم مختلفة لا يعرف أحدنا الآخر، لكني لمحت الشابين اللذين كانا معنا وهما تحت أقدام الجنود يعذبونهما التعذيب الأخير قبل نقلهما، وبعد أن تأكدوا من أسماء جميع المعتقلين المراد نقلهم، لا أعلم إلى أين، بدأوا بربطنا نحن الخمسة والثلاثين معتقلاً بقيد واحد، ووضعونا بسيارة كبيرة، ومن حظي أن أتى بقربي الشابان اللذان كانا يعذبان بشدة، وعندما بدأت السيارة بالمسير تجرأت، وسألت الشابين ما قصتكما؟ وما هذا الهدوء عليكما بعد كل هذا العذاب؟ فأجابني أحدهما وقال لي: أنا من حي بابا عمرو الحمصي، اعتقلوني على أحد الحواجز، وألصقوا إليّ تهمة أنني قتلت ثمانية عناصر مخابرات جوية على مشارف الحي، وأجبروني على الاعتراف بذلك، وأظهروني على تلفزيون الدنيا.

وبعد أن روى لي قصته يبدو أن تأثير المخدر الذي أعطوه إياه ليحتمل الألم قد زال، وبدأ أحدهما بالصراخ من شدة الألم، فكشفت عن ظهره لأرى عظامه من خلال الشقوق السوداء والزرقاء التي على ظهره، فكان مصير الرحلة إلى دمشق أن نشاركهما ألمهما وليس لنا أن نخفف منها إلا الدعاء لهما.

وصلنا إلى دمشق، وتحديداً إلى فرع الشرطة العسكرية في منطقة القابون، وهناك استقبلنا شبيح برتبة مساعد أول مع العديد من العناصر، وتم فرز المعتقلين بحسب تصنيفهم "عساكر هاربين، سياسيين"، وبعدها كان النصيب الأكبر من العذاب للسياسيين؛ حيث أمرونا أن نخلع ملابسنا، وأن ننام على بطوننا على أرض إسفلتية حرارتها تتجاوز السبعين درجة.

وبدأت حفلة الضرب والشتائم والتعذيب مع صرخاتهم المشهورة: بدكم حرية يا كذا وكذا؟

انتهت حفلة الاستقبال وتم إيداعنا في سجن أعلى الفرع، منعنا من الجلوس على الأرض، بقينا واقفين طوال يوم كامل، ومن يجلس أو يشرب الماء يبرح ضرباً، وبقينا على هذه الحال حتى أتى باص صغير، وقاموا بربط أعيننا وأيدينا بكل قوة، حتى شعرت أن عظام معصمي ستتفتت.

وكان عددنا حوالي 20 معتقلاً سياسياً، ووضعونا في الباص، ولم نصدق متى سيسير هذا الباص لننتهي من حفلة الاستقبال والوداع والضرب والشتائم التي لا نعلم من أين تأتينا.

وبعد أن مشى هذا الباص الصغير المكيّف شعرنا أنه يسير في مدينة دمشق بين الأسواق والباعة، فأصواتهم اخترقت زجاج الباص وستائره، وبعد حوالي نصف الساعة توقف الباص وصاح أحدهم باسمي، فنزلت وحيداً وتركت خلفي حوالي 19 شخصاً، ذهبوا إلى المجهول كما أنا.

أزال العنصر العصبة من على عيني، وأزال قيود يدي التي بقيت علاماتها على يدي أكثر من أسبوعين، وقال لي: ادخل دخلت إلى غرفة لا يوجد فيها شيء سوى صورة الطاغية وصورة أبيه، وشعارات على الجدران كان في آخر الغرفة باب مفتوح، وكان الجوع والعطش قد بلغا منّي ما بلغا، الصمت حولي كان مطبقاً هدوء وجو بارد داخل هذا المكان، ترى ما هو؟ هل هو سجن مركزي فأكون محظوظاً أم أنه أحد الفروع الأمنية، لا سيما أن رأيت ورقة على جدار الرواق في آخر الغرفة مكتوباً عليها بأمر من رئيس الفرع يمنع التجول في الرواق.

فتبددت تلك الشكوك وأيقنت أني في أحد الفروع الأمنية، لكن لماذا لا توجد حفلة استقبال كما غيره من الفروع؟

بعد أن انتهى العنصر من إجراءات تسلمي وتسليم أوراقي والظرف المختوم الذي يحمل اسمي ولا أعلم ما به، أخذني إلى غرفة أخرى وتم منحي رقم 19 في الزنزانة رقم 17، وقال لي: إياك أن تذكر اسمك لأي أحد يسألك عنه أنت الآن اسمك 19 فهمت.

أخذني إلى الزنزانة رقم 17، وأنا مستغرب أنني حتى الآن لم أتلقَ أي عذاب ترى هل أشفقوا على حالي بعد أن ظهرت علي كدمات الفروع السابقة؟ أم ماذا؟!

فتحوا باب الزنزانة ودخلت رأيت المعتقلين الموجودين، وكانوا كُثراً وجوههم إلى الحائط وظهورهم إلى الباب، فصاح السجان "الشاويش" الزنزانة، وقال له: إن هذا اسمه 19 أخبره ما يفعل، فقال له: حاضر.

أغلق السجان الباب واستدار المعتقلون ناحيتي مرحبين بي، كانت وجوههم نضرة بيضاء، رغم الكدمات التي عليها مبتسمين، رغم آلامهم طمئنوني بكلامهم، وأتوا لي بما تبقى من طعامهم القليل أصلاً وبعض المياه، جلست آكل وكأنني أول مرة في حياتي أرى الخبز اليابس اللذيذ، وهم ينظرون إليّ مشفقين على حالي.

وبعد أن انتهيت بدأوا يعرفونني عن أنفسهم واحداً تلو الآخر، فهذا الذي من حمص وذاك الذي من دمشق أو ريفها، وذاك الذي من إدلب والآخر من الزبداني، وأحدهم من تل كلخ، فعرفتهم بنفسي ومن أين أتيت؟ ورويت لهم رحلتي الشاقة بين الأفرع الأمنية حتى وصولي إليهم، وسألت الشاويش الذي يدعى الشيخ زين العابدين: أخبرني بالله عليك أين أنا؟ وفي أي الفروع الأمنية أنا؟ فقال لي: أنت الآن في فرع فلسطين!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد