الصراع العالمي والتوازنات الكونية

هذه الدول تمكنت بطريقة ما من الاعتماد على ذاتها اقتصادياً وتنموياً متخطية مفهوم هذه التبعية، ومع أنها تدفع الثمن بالمقابل في كل مرة، لكنها تقاوم هذا التحول الكوني المظلم.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/07 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/07 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش

تنبثق التوازنات الكونية فيما بين الدول من قبيل المحافظة على الصيرورة الوجودية للتكوينات الجيوسياسية لها، بتدخل عامل الزمان والمكان ومفهوم الترابط الثقافي، والتوجه المعرفي، والبنيان الطبيعي، والاتجاه الروحاني والعاطفي لكل دولة، ضمن هذه البوتقة لخلق العلاقة الجدلية البينية على مبدأ التوازن المصيري لكل منها، فتتشكل العلاقات الدولية العميقة على هذا النحو.

وقد تطور هذا المفهوم مع الزمن بتدخل التكنولوجيا ليشمل دولاً لا تربطها أواشج ذات معنى مع بعضها البعض، وهي فكرة نابعة من صميم الهيمنة العالمية لرواد نادي بيلدربيرغ على دول الأرض التي تقول بهوية موحدة للعالم.

في العقود الثلاثة الأخيرة، ظهرت مجموعة دول مستأسدة تقودها الولايات المتحدة وأوروبا، وتتوافق معها غالبية دول العالم ليس حباً بها بقدر ما هو رضوخ اقتصادي لها، يستحكم بمصائر تلك الدول.

وقد تحكمت هذه المجموعة بأدق تفاصيل الحياة على الكوكب المضيء.

في الجانب الآخر، خلق هذا التوجه إحساساً مشتركاً جمع مجموعة الدول المستضعفة على مفهوم مقاومة السياسات المفروضة لمنع امتصاص الثقب الغربي لبقية دول العالم.

هذه الدول تمكنت بطريقة ما من الاعتماد على ذاتها اقتصادياً وتنموياً متخطية مفهوم هذه التبعية، ومع أنها تدفع الثمن بالمقابل في كل مرة، لكنها تقاوم هذا التحول الكوني المظلم.

إن الدول ذات الطبيعة البنيوية المركبة مثل أميركا والدول الغربية تعتمد على الهيمنة الاستجرارية، وتستمد وجودها من هذه الاتكالية وقد اصطدمت بالدول المناهضة لمشاريعها -كما هو الحال بعد الحرب الباردة- بمنظومة المعسكر الشرقي المتمثل بالاتحاد السوفييتي السابق والصين الشيوعية، لكنها استطاعت تفكيك السوفييت وتثبيط الصين، وساعدها قبل ذلك قصفها لليابان ومشاركتها في إفناء ألمانيا الهتلرية.

في تلك الحقبة تمتعت أميركا برفاهية الأحادية القطبية، لكن الصين استغلت الزهو الأميركي بنهوض تدريجي مدروس تجارياً واقتصادياً وعسكرياً وماثلتها روسيا الاتحادية بالاعتماد على تطوير قدراتهما المحلية لتتصدرا من جديد المنافسة العالمية.

ما حدا بالولايات المتحدة وشركائها إلى التسريع بإحداث تغييرات جوهرية في العالم مركزة على التفكيك البنيوي للشرق الأوسط الذي يُعتبر "عقدة النجّار" العالمية، فقد خلقت صراعات أيديولوجية امتدت لعقود منها غزو العراق الذي لم يف بالغرض، ما دفعها لتفعيل العوامل المساعدة الأخرى كالهجرة والتهجير التي أحدثت فرقاً وازناً في مفهوم الصراع، وقد ينظر إليها بعين قاصرة لكنها مؤثرة على المدى المجدي.

لقد أجبر هذا العامل الأفراد طوعاً بالتوجه إلى عوالم مرسومة لهم، بدءاً من تهجير الكوسوف والصوماليين والعراقيين وتبعهم وليس آخراً السوريون بين عامي 2011 و2015 متمترسة وراء الهدف الإنساني النبيل، ولكن الغاية الحقيقية هي رفد العجز البشري لأوروبا وتجديد حضارتها من الداخل، وليس غريباً أن فتحت أوروبا أبوابها؛ لأنها شريك في نظرية المؤامرة المستمرة.

إن إدخال المجتمعات في دائرة الغزو والسيطرة الثقافية والإعلامية يسلط الضوء على التدخل الأميركي في الشرق الأوسط بشكل عام، وتدخلها الحالي في سوريا بحجة محاربة التطرف والإرهاب العالمي كنتاج للعقلية الفردية المطلية بورق الديمقراطية المذّهب، وقد ظهرت بواكير هذا التدخل في حرب الخليج بصورة أوضح وألحقته بمشروع ما سمي "الربيع العربي" الذي تندرت به كونداليزا رايس، وعصف بتونس وليبيا ومصر تباعاً، ولحقتها اليمن ثم العراق من جديد وآخرها سوريا، ودول الخليج مدرجة على القائمة حين الضرورة، قطر مثالاً.
***

هذا التفرد الاستطرادي، وخاصة في الآونة الأخيرة بدأ يصطدم بمنظومة كامنة سعت إلى تكتل قد يوازن الكفة الدولية، رغم أنه لم يتمكن من استكمال قدراته وطاقاته بالشكل الأمثل، لكنه برز في السباق الزمني لمقاومة نزعة التفرد الأميركية والأوروبية، فظهرت كوريا الشمالية بقدرات نووية عالية، وكذلك إيران بقدرات باليستية قارية، وروسيا كمنافس خطير تقود هذا المحور.

أميركا التي بادرت من قبل لانتهاج سياسة قطع اليد مع العراق، واتباع وسيلة الترهيب مع الدول اللاتينية وعلى رأسها فنزويلا، وشيطنة الأنظمة المناوئة لسياساتها ككوريا الشمالية وإيران وسوريا.

استعملت مؤخراً المقص الاقتصادي على روسيا وإيران، وهو تحذير للصين الصاعدة عالمياً وتركيا الصاعدة إقليمياً، ما اعتبره محللون أنه ردة فعل أكثر منه حلاً، لكنه يتماشى مع التقارير السريرية لهواجس تلك الدول ذات التبعية المطلقة لها والتي أعربت مؤخراً عن ميول غير معلنة لفك الارتباط معها.

إن الكيان العالمي الجديد المتمثل في دول التوازن الكوني لا يؤمن بالتبعية السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية المنبثقة من مظلة الحماية الأميركية – الغربية، لكنه يؤمن بإحداث توازن يضمن صيانة كياناتها الوجودية وثقافاتها ومصالحها.

وعليه.. فإنها ترتبط بمجموعة ظروف متشابكة لا ترتكز على مبدأ الدين أو القومية أو اللغة أو الثقافة، بل على مبدأ خلق التوازن الكوني وإنقاذ العالم من هذا التحول المهلك الذي قد يشهد استخداماً غير مسبوق للقنابل النووية، فخروج أميركا من اتفاقية المناخ وهي التي تمتلك الكم الأكبر من المصانع وخروجها من اتفاق الصواريخ النووية قصيرة المدى عوامل تساعد على الدمار الكوني، حسب المنظور الحسابي.
***

بقيت المنطقة العربية في إطار التحالفات الأميركية، وظهر المشروع الريعي للتحالف السني – الأميركي 2017 بترتيب سعودي وقيادة أميركية استكمالاً لحلقة الصراع والسيطرة، وهدفه الإضرار بمجموعة دول التوازن الكوني.

لكنّ التفسير الوحيد أن المجتمعات الخليجية في حالة انهيار سلطة، وما يدنو بها أكثر هو انهيار القيم والأعراف والمعتقدات وظهور السلوك العدائي، وكل الظن إنشاء قوة تنتج واقعاً جديداً في المنطقة، لكنه سيكون منعسكاً وكاسحاً ومؤلماً لتلك الدول.

هذا التحول الأخير سيمنح الكيان العالمي الجديد روحاً إضافية للنهوض والانتشار، ويجعل من مجموعة دوله القطب الثاني الذي يسعى إلى إعادة توازن العالم ضمن دائرة: الصين، روسيا، كوريا، إيران، سوريا، العراق، فنزويلا، بعض دول أميركا اللاتينية ودول المنظومة الآسيوية وقد تنضم تركيا ودول سوفييتية سابقة.. هذه الولادة الجديدة مصير سيشهده العالم قريباً، يدحض أمنية نادي بيلدربيرغ بأن للعالم حكومة واحدة، وليست الحياة بالتمنّي… دُمتم بخير.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد