أزمة تدنّي مستوى الخطاب السياسي في لبنان

رغم درجات الحرارة التي ما زالت مرتفعة بالنسبة لما اعتاد عليه اللبنانيون في فصل الخريف، يضرب منخفض أدبي أجواء الخطاب السياسي في بلاد الأرز.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/07 الساعة 04:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/07 الساعة 04:13 بتوقيت غرينتش

رغم درجات الحرارة التي ما زالت مرتفعة بالنسبة لما اعتاد عليه اللبنانيون في فصل الخريف، يضرب منخفض أدبي أجواء الخطاب السياسي في بلاد الأرز.

أيام قليلة – لا تتخطّى فترة أسبوعين على أبعد تقدير – كانت كفيلة بأن تشهد كمّاً معتبراً من المنزلقات اللفظية.

سوقية تعبيرية، وأدبيات مبتذلة، وقع فيهما سياسيون من مختلف المشارب الحزبية والطائفية، ومن يدور في فلكهم من حزبيّين، وصحفيين، ومناصرين، ومؤيدين، ومتعاطفين.

رئيس التيار الوطني الحرّ، وزير خارجية لبنان – جبران باسيل- صهر رئيس الجمهورية الحالي، يفاخر على تويتر بالعنصرية اللبنانية.

نائبان في البرلمان اللبناني يقومان باستعمال تعابير مستمدّة مباشرة من الحقل المعجمي للنعل، الذي تفوح منه رائحة كريهة تجمع بين التجبّر والتزلّف، مروراً بالاستقواء.

النائب ستريدا جعجع تفاخر بأنّ زوجها – رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع – "دَعْوَس" في الماضي أبناء بلدة مجاورة في شمال لبنان.

النائب علي عمّار يستنبط نظرية مفادها أنّ طريق "الملكوت" تمرّ من "حذاء" الأمين العام للحزب الذي ينتمي إليه – السيّد حسن نصر اللّه، ويفاخر بأنّه حاول جاهداً تقبيل هذا الحذاء على أثر حرب يوليو/تموز 2006.

ومن نفس الحقل المعجمي لتأليه الزعماء السياسيين في لبنان، يغرف المشرف العامّ على الموقع الإلكتروني لحزب القوات اللبنانية الصحفي شارل جبّور، فيقوم بالتطاول على الذات الإلهية في برنامج حواري مباشرة على الهواء، وذلك في معرض مزايدة انفعالية خطابية للدفاع عن الرئيس الراحل بشير الجميل، واعتباره قدّيساً من القدّيسين.

أمّا على رأس هرم البلاغة والكلام، فيتسيّد الحقل المعجمي للموت، رئيس جهاز التنشئة السياسيّة في حزب القوات اللبنانية المحامي شربل عيد، يتمنّى – بتغريدة على تويتر – الموت لنائب أمين عام حزب اللّه الشيخ نعيم قاسم، وذلك ردّاً على اتّهام الأخير للرئيس الراحل بشير الجميل بالعمالة لإسرائيل.

طلّاب من الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومن حزب المردة، يهدّدون رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع بالقتل، وذلك خلال احتفالهم بفوزهم بالانتخابات الطلابية في جامعة خاصة (جامعة سيّدة اللويزة في الكورة – شمال لبنان).

إذاً، هي فلاحة لغوية في تلك الحقول المعجمية التي لا تؤتي أكلها إلّا مريرة سليطة. هو مهرجان خطابي من التخوين، والتأليه، والتجديف، والتهديد، والتزلّف.

هي باقة منتنة من البذاءات اللفظية على أبواب الشتاء.

صحيح أنّ تدنّي مستوى أسلوب الخطاب السياسي أصبح آفّة عالمية، خصوصاً أثناء الحملات الانتخابية، لا سيّما مع صعود الزعماء الشعبويّين في أوروبا وأميركا.

يحاول هؤلاء إيهام جمهورهم أنّ أسلوبهم الذكوري والغاضب والعنيف في التعبير، ليس إلّا دليلاً على قوّة شخصيّتهم وعلى قدرتهم على القيادة، كما يرومون – من خلال استعمال ألفاظ سوقية وبذيئة- استدرار عطف ناخبيهم، وذلك من خلال الظهور بمظهر الصدق والصراحة أمامهم.

اليوم، يعتبر علماء الألسنيّة (وهو علم اللغة الحديث الذي أسّسه في بدايات القرن الماضي السويسري فردينان دو سوسور) -لا سيّما الفرنسيتين آن – ماري بايي ومارييت داريغران- أنّ تدني مستوى الخطاب السياسي في الغرب ليس إلّا دليلاً على ضعف السياسيين، لا سيما على ركاكة حجّتهم في الإقناع، وقلة ثقتهم بما يطرحون من أفكار وحلول، وفراغ خطابهم من المضمون الجدّي، فيلوذون إلى تلك الأساليب اللغوية الهابطة في محاولة للتعويض عن هذا النقص.

ولكن يبقى تدني مستوى الخطاب السياسي مسألة أكثر حساسية وأشدّ خطورة في الدول التي شهدت حروباً أهلية، بالمقارنة مع باقي البلدان، لما لهذا الهبوط في المستوى الخطابي من انعكاسات سلبية على الأجواء العامة في البلاد، لا سيما الانقسامات والتشنجات الأهلية التي يمكن أن تنتج عنه. فمنذ تأسيس لبنان، حتّى في عزّ الحرب الأهلية، لم يعرف هذا البلد تدنياً في مستوى الخطاب والتخاطب السياسيين، كالذي يشهده حالياً.

هل من الممكن مثلاً مجرد تخيّل الشيخ بيار الجميّل، وهو الرئيس التاريخي لأحد الأحزاب المسيحية، الكتائب اللبنانية، متلفّظاً بعبارات تنال من العزّة الإلهيّة؟ هل كان من الممكن مجرّد تصوّر السيدة زلفا شمعون وهي تفاخر بأنّ زوجها الرئيس كميل شمعون، وهو أحد الزعماء التاريخيين للموارنة في لبنان، قد داس على أهالي بلدة مجاورة للبلدة التي تنتمي إليها عائلته؟ هل يعقل أن نتخيّل الرئيس عادل عسيران، وهو من أبرز النواب الشيعة في العهد الذهبي للبنان، وهو يتزلّف علنا لحذاء شخص آخر؟

هل ممكن ولو أن نتصوّر وزير الخارجية الراحل شارل مالك، وهو يفاخر بالـ"عنصرية اللبنانية"؟ طبعاً لا، فالمشهد سوريالي لا يمكن تصديقه، والأمثلة تنطبق على كلّ طوائف لبنان، دون استثناء.

ولكن شتّان ما بين الماضي والحاضر، ليس المقصود الغرق في ماضويّة رجعية، أو القول إنّ الأجيال التي سبقت في العمل السياسي لم ترتكب أي خطأ من الأخطاء، وليس المقصود أيضاً أسطرة هذا الماضي من خلال سرديات سياسية رومانسية متخيّلة.

المقصود هو التشديد على أنّ واقع الخطاب السياسي في لبنان سيّئ جداً اليوم، لا بل في الحضيض.

وهنا لا بدّ من ملاحظة حول العلاقة القائمة بين تدنّي مستوى الخطاب السياسي لأحزاب وقوى السلطة المشاركة في التسوية التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية -منذ سنة تماماً- من جهة، وبين تدنّي مستوى الأداء السياسي -لا سيّما الحكومي- لهذه الأحزاب والقوى من جهة أخرى، هذا الأداء الذي يصيب شرائح واسعة من الشعب اللبناني -وليس فقط الطائفة السنيّة- بالإحباط، وبانعدام الثقة بالطبقة السياسية الحاليّة.

هي أزمة مزدوجة: أزمة خطاب سياسي متلازمة مع أزمة أداء سياسي.

في كتابه "موسوعة العلوم الفلسفية، الجزء الثالث، فلسفة العقل (أو الذهن)"، يشكّل الفيلسوف الألماني هيغل واحداً من الذين يشدّدون على العلاقة المباشرة بين التعبير (اللغة، أسلوب التعبير، الخطاب) والفكر.

يقول هيجل بـ"أنّنا نفكّر بواسطة الكلمات".

فأداء القوى المشاركة في الحكومة – تماماً كما خطابها السياسي – قد بلغ من الانحدار ما لم يبلغه مسبقاً، أو -على أقلّ تقدير- ما لم يبلغه إلا نادراً.

ينمّ هذا الخطاب المتشنّج عن تخبّط قوى سياسية كثيرة أمام خياراتها السياسية وتحالفاتها، وجردة الحساب التي بدأ جمهورها يطالبها بها بعد مرور سنة على تسوية الانتخابات الرئاسية.

أمّا المؤشرات، فتقول إنّ السنة الأولى من عهد الرئيس عون سجّلت أعلى نسبة عجز مالي على الإطلاق، وهي تقدّر بـ5 مليارات دولار.

أمّا على صعيد رئاسة الحكومة، فهل كان من الممكن في الماضي غير البعيد، أن يرضى رئيس الحكومة الراحل صائب سلام بأن يتنازل -بالممارسة العملية- عن صلاحياته الدستورية، وعن حقوق طائفته، لصالح رئيس الجمهورية وفريقه، حتى بدستور وصلاحيات ما قبل الطائف؟ وهل من الممكن أن نتخيّل المعلّم كمال جنبلاط، وهو الذي كان محرك السياسة اللبنانية ولولبها، وهو راض بالاكتفاء بسياسة "الانتظار على ضفة النهر"، والتحسّر على تويتر؟ طبعاً لا.

أخيراً، لعل أخطر ما في تدنّي مستوى الخطاب السياسي في لبنان، هو أنّه يوحي بأجواء الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية).
تعتبر الباحثة البولندية أليسيا كاكبرزاك (جامعة لودز) أنّ الهبوط في مستوى الخطاب السياسي، لا سيما استعمال كلمات التحقير والبذاءات اللفظية الصادمة، هو ميزة أساسية من ميزات الخطاب التوتاليتاري. (1)

ففي السياق نفسه، لعلّ في حادثة حيّ السلّم عبرة لمن يعتبر، فبعد أن قام بعض سكان هذه المنطقة الواقعة في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت – معقل حزب اللّه – بشتم الأمين العام للحزب – السيد حسن نصر اللّه – لأنّه لم يتدخّل لحمايتهم من الدولة التي أزالت مخالفاتهم البنائية، سارعوا في اليوم التالي إلى التوجّه بالاعتذار العلني منه، بأسمى آيات المحبّة والمدح والتبجيل، ومن نفس الساحة التي قاموا فيها بشتمه في اليوم السابق، وذلك على وقع خطاب "الحذاء والملكوت" – آنف الذكر – الذي ألقاه النائب علي عمّار.

تذكّر واقعة الاعتذار هذه بالمشهد الأخير في رواية 1984 لجورج أورويل (فيلم المخرج مايكل رادفورد)، وهو مشهد رهيب يقوم خلاله معارض سابق لنظام شمولي بالتعبير صادقاً عن حبّه لقائد هذا النظام، بعد أن عانى ما عاناه من تعذيب جسدي، وترهيب نفسي، وغسل لدماغه بالخطاب الرسمي واللغة الخشبية.

خلاصة القول هي أنّ تدنّي مستوى الخطاب السياسي يدعو إلى الاشمئزاز والتشاؤم، ولا يوحي بأنّ ما ينتظر اللبنانيين في المستقبل المنظور من أداء سياسي – يرافقه هذا النوع من الخطاب – سوف يكون إيجابياً، كما يشكّل أحد الأسباب الرئيسية في شعور المواطن اللبناني بالإحباط أمام طبقة سياسية تكشف يوماً بعد يوم عن مدى فسادها وعجزها عن إدارة شؤون البلاد والعباد.

بناء على ما تقدّم، لا بدّ من نهضة أدبية أخلاقية، ومن إعادة نظر جميع القوى السياسية -لا سيما الأحزاب والقوى المشاركة في التسوية وفي الحكومة- بخطابها -شكلاً ومضموناً – وبخياراتها السياسية، وبالأداء السياسي الذي يعبّر عنه هذا الخطاب، وبأسرع وقت ممكن، لا سيما أننا على أبواب انتخابات نيابية في الربيع القادم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) Alicja Kacprzak, Le pathos négatif en tant que trait du discours politique totalitaire (The Negative Pathos in the Political Totalitarian Discourse), Argumentation et analyse du discours, Octobre 2013.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد