لا ريب أن كل منصفٍ وخالٍ من شحناء الطائفية وأهواء الأدلجة، ممن يتابع ما يجري في العراق عموماً، وما يحدث بين بغداد وأربيل على وجه الخصوص منذ فترة ما قبل اتخاذ حكومة الإقليم قرار الاستفتاء الجماهيري وحتى الآن، سيلاحظ بأن قيادة الإقليم لم تسعَ قط لبتر حبل الود والحوار مع بغداد التي لم تستخدم في غالب الأحيان غير لغة التهديد والوعيد.
بينما حكومة الإقليم لم تغلق باب الرجاء منذ بدء التوتر بين بغداد وهولير، وبالرغم من الشحن الطائفي والجماهيري ضد الإقليم من قِبَل الكثير من ساسة بغداد، لا يزال حال ساسة الإقليم متمثلاً بما عبر عنه ابن قيم الجوزية "إذا رأيت الباب مسدوداً في وجهك، فاقنع بالوقوف خارج الدار، مستقبلاً الباب، فعساه يفتح، ولكن لا تولِّ ظهرك وتقول: ما حيلتي وقد سد الباب دوني".
حيث لم تترك حكومة الإقليم باباً من أبواب الدبلوماسية إلا وطرقته للتوصل إلى ما فيه الخير لبغداد وهولير، كما لم توفر قيادة الإقليم جهداً للجلوس كأنداد على طاولة واحدة وبحث ما يفيد الناس في الإقليم والعراق، ولكن عبثاً، وطبعاً ليس لانعدام الخير والخيّرين في كل من يمكثون في العراق، إنما لانسياق قادة بغداد مع خطاب الدول المجاورة لكردستان.
وحيث يبدي زعماء تلك الدول المعولون على الدعايات السياسة استعدادهم لإنقاذ شعوب ميانمار، ولكن يظهر جلياً من خلال ما يصرحون بأنهم على استعدادٍ تام لإقامة المجازر ربما بحق كل سكان الإقليم!
وهو ما يؤكد كلام مالك بن دينار بحق أهل البروباغندا السياسية، وذلك بقوله: "من علامات المنافق أنه يحب أن ينفرد بالصيت".
كما أنه في أوج التصعيد الإعلامي لبغداد التي بقيت تهدد كردستان وناسها، لم يغيّر الإقليم خطابه السلمي والإنساني الداعي إلى الحوار والتفاهم، كما أن خطاب رئيس الإقليم وكل قيادته في كل المهرجانات التي أُقيمت في مدن الإقليم دعماً للاستفتاء، كان دائماً ما يحض على الفصل بين السياسة والمواقف السياسية والشعوب، وعدم المساس بأمن أي مواطن عربي في الإقليم رداً على تصرفات قائدٍ أو سياسيٍّ ما في بغداد، بينما لغة الكثير من القادة الدونكيشوتيين في بغداد فلم تتغير، وبقيت ترعى في مراتع التهديد والوعيد والتصريحات المراهقاتية التي لا تليق بأناس يقودون دولة لها تاريخ سحيق مثل العراق، إنما أكثرها كانت أشبه بلغة المافيات وليست لغة ناس يعملون في السياسة ويقودون دولة، ورغم استمرار اللغة التهديدية لحكام بغداد لم يفقد أي قيادي من الإقليم صوابه، بل لا يزال العقل والمنطق هو ما يعولون عليه،
وكان آخرها نداء رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان نجيرفان بارزاني، حيث وجه رئيس الحكومة نداءه إلى الأطراف العراقية والمجتمع الدولي بغية الحيلولة دون وقوع الحرب، ومع ذلك وقعت الحرب بدعم مباشر من القيادة العراقية، وكان بارزاني قد دعا سماحة السيد علي السيستاني وكافة الأطراف العراقية وكافة منظمات المجتمع المدني وداعمي السلم، الأمم المتحدة، الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، الدول الأعضاء في التحالف الدولي ضد داعش، الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي والدول الإقليمية للعب دورهم بصورة عاجلة والتدخل من أجل إبعاد المنطقة من حرب جديدة.
وتمنى بارزاني في ندائه بألا تقوم القوات العراقية وأية قوة خارجية بإشعال فتيل هذه الحرب؛ لأنها ـ حسب قوله ـ سيكون لها تأثيرات سلبية كبيرة على الأوضاع الداخلية للعراق والمنطقة برمتها، وكذلك قد تؤدي إلى إعادة تقوية أرضية داعش والمنظمات الإرهابية الأخرى في المنطقة، مبدياً استعداد حكومة الإقليم لأي حوارٍ بناء، وهنا طبعاً فمن يتحمل حالياً مسؤولية أية حرب ومآلاتها السلبية هو القائد العام للقوات المسلحة العراقية السيد حيدر العبادي الذي بدأ بتاريخ 10/10/2017 خلال مؤتمر صحفي التهديد بشن هجوم عسكري من قِبَل الجيش العراقي والحشد الشعبي ضد قوات بيشمركة كردستان، كما وبناءً على أوامر العبادي تم تجييش الشارع العراقي وتحشيد قوات من الحشد الشعبي والجيش العراقي في أطراف مدينة الموصل وصولاً إلى أطراف كركوك وخانقين، تمهيداً للغزو وربما كان في نيتهم أنفلة سكان الإقليم على غرار ما فعله نظام البعث العروبي بزعامة صدام حسين في الثمانينات.
ومع أننا لسنا من أنصار أي تعميم باعتبار أن الشمولية غير مستحبة حتى مع من كان في مقام المعادي، إلا أنه من شبه المؤكد أن قرارات الناس لها علاقة وثيقة بالطبائع والنفوس، وبما أن ممارسات البشر في عموم المعمورة تتشابه في الكثير من المناحي السلوكية؛ لذا جاء في معجم الأمثال العالمية أن الذئب يستطيع تغيير جلده لا تغيير طبعه، ولعل هذا المثل البلغاري المتعلق بالبنية الثقافية للشخص العدواني وما تلقفه المرء من العلوم والمعارف ونشأ عليها، يتمم ما ذهب إليه الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة حين قال "بأن الحرب ـ لو يعلمون ـ لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع بل في قلوب الناس وأفكارهم"؛ إذ إن من كان مساهماً في زراعة الأحقاد وبث الضغائن بين العامة طوال السنوات السابقة،
مؤمناً بثقافة العفالقة القائمة على نفي الآخر ونكرانه، واستعباده أو إلغائه، ليس من السهل عليه تغيير طباعه مهما ادّعى التحضر، أو تلحّف بشعارات مثل الحرية والديمقراطية والحداثة والتكنوقراط، بل ولعل فشل قادة العراق الحاليين في التخلص من إرث حزب البعث وثقافته الدموية، هو ما دفع بسكرتير الحزب الاشتراكي الديمقراطي الكردستاني، محمد حاجي محمود؛ ليقول: "لقد كنا نعتقد أنه بعد سقوط نظام صدام، لن يفكر أحد باستعمال القوة، ولكن يبدو أن الوجوه وحدها تتغير بالنسبة لمن يحكمون العراق، فالتهديد والوعيد واستخدام القوات العسكرية أمر طبيعي بالنسبة لهم".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.