تابع العالم، بترقُّب، أحداث الحلقات الأخيرة من مسلسل "اليونيسكو"، الذي كَشَفَتْ مجرياتُه عن ارتفاع صوتٍ من داخل أروقة القاعة منادياً: "تَسْقُطْ قَطَرْ.. تَحْيَا فَرَنْسَا"، القاعة تقع وسط العاصمة الفرنسية، إلى هنا يبدو كل شيء مألوفاً، تماماً كانسحاب الولايات المتحدة الأميركية من المنظمة بحجة أنها تقف ضد مصالح "إسرائيل".
لكن الغريب في الأمر أن ذلك الصوت جاء بلكنة عربية وإن لم يكن "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينْ"، ضارباً بعرض الحائط كل نظريات الأنثروبولوجيا التي عمل عليها المستشرقون ومثّلت خُلاصَاتِ لِعُقُود من مخالطتهم لشعوب الشرق، فمن مِنْكم يَبْعث برسَالة إلى جَاكْ بَيرْكْ في القبر؛ كي يخبره بأن العالم العربي اليوم يَسِير عَكْس التيار ولم يعد فيه مكان لنظريته "أنا ضد ابن عمي وأنا وابن عمي ضد الغريب"؟
يقيناً، إننا -كعرب- لا نزال مُحْتَفِظِين بالجزء الأول من المقولة، وذلك ليس غريباً؛ إذ يُمثل حالة صِحِية في الصراعات الأفقية التي تحدث بين المجتمعات العربية منذ فَجْر التاريخ، فالغريب بلغة الفرنسي آلبَيرْ كَامُو وليس بلغة جاك بيرك، أن ابن العم أصبح في حَرْب مفتوحة مع ابن عمه وأخيه في اللُغة والتاريخ والجغرافيا، فالتاريخ عنصر أساسي لفهم الحاضر كما يقول وِيلْيَامْ غَايْ كَارْ في "أحْجار على رُقْعَة الشطرنج": "إذا أردنا أن نُدرك ماهية الأسباب التي وُلِدَتْ في الماضي وأدت إلى النتائج التي نعيشها ونَخْتَبُرُهَا اليوم، لا سِيَّما ما يتعلق منها بالواقع الدولي السيئ، والواقع الداخلي القلق للأمم- فإنه يجب علينا أن نَدْرُس التاريخ؛ لأن التاريخ ُيكرر نفسه دوماً"، فهل ما حدث هو تكرار لحدث تاريخي آخر؟
لنُقِم معادلة بين ما قاله جاك بيرك وما قاله ويليام غاي، سَتُحقق المعادلة صدق المقولتين تاريخياً، فمنذ نزول الإنسان إلى الأرض وحتى تلك اللحظة الزمنية التي انطلق فيها ذلك الصوت، ضارباً بعرض الحائط كل الخلاصات الفكرية على مر العصور، كان التاريخ يعيد نفسه دوماً، كعجلة تدور وتدور وفي كل مرة ترتفع منها نقاط وتنخفض أخرى، لكنها عجلة واحدة متحدة مكونة من مجموعة من النقاط تفصلها المسافة نفسها عن المركز.
لَكِنْ.. ذلك لا يعني أننا لن نجد تفسيراً مقْنعاً لما جرى، تفسيراً معاصراً لما حدث، يأخذ في الحسبان الأبعاد الجيوسياسية للموضوع، فقبل عقود من الآن وقف الأشقاء العرب على قلب رجل واحد في وجه العدوان الصهيوني وأذاقوه الحنظل وسقوه من كأس الهزيمة، هنا كان التاريخ يعيد نفسه ويذكرنا بأمجادنا وانتصاراتنا، يوم استعدنا مدينة القدس ويوم هزمنا المغول، ثم بدأنا رحلة السقوط.
فعلى مر الأشهر الماضية، تابعنا أحداثاً لا يمكن أن يُصدقها أحد من الأولين في أفلام السفر عبر الزمن، شهدنا -وليتنا لم نشهد- مُحاصرة شعب مُسْلِمْ في شهر الله الحرام، من طرف إخوته في كل شيء؛ في الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك… لكن، أولم يحدث ذلك أيضاً؟!
نعم، ولكن ليس بالمحددات والخصائص نفسها، فتلك أمة من المشركين قد خلت، يحاصرون نفراً من أبناء عمومتهم، يجمعهم كل شيء ويفرقهم أهم شَيْء.
لذلك، لَيْسَ غريباً أن يخرج علينا ذلك الصَّوْت معلناً عن الكثير من المكبوتات التي لم تَطْفُ بعدُ على سطح الصراع العربي-العربي، فبعد الآن لا تَسْتَغْرِبْ إذا رأيت نتنياهو، المتهم في قضية فساد، يَعْمل مستشاراً أمنياً لدولة عربية! ولا تستغرب إذا رأيت صحفياً عربياً تَنْهَمِرُ دموعه بسبب مباراة ولم تقطر له دمعة حين قُتل العشرات من إِخْوَتِه! ولا تستغرب إذا رأيت الولايات المتحدة تمسك بيد "إسرائيل" عائدتين عن قرار انسحابهما! وبعد الآن، لا تستغرب إذا سمعت صوتاً عربياً ينادي في أروقة الأمم المتحدة "تسقط فلسطين وتحيا (إسرائيل)"!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.