على الحكومة الاتحادية إعلان روح عصر جديدة، وإنتاج حلول تصب في مصلحة مجتمعات المدن المحررة، وتحويلها إلى مجتمعات مطعّمة من مرض الاحتلال الداعشي.
عليها تثقيف تلك المجتمعات ثقافياً وفكرياً وسلوكياً بمناهج تربوية ودينية ومعرفية وأدبية، عليها اغتيال ومحو الظواهر والمخلفات الداعشية.
يجب أن نعترف أن ظهور الفكر الداعشي وصعوده في السنوات الماضية قلَّم وعطّل الصعود الوسطي والمعتدل للإسلام في وقت حرج من عمر الدولة العراقية الحديثة، ولكن هناك فرصة متاحة لقطع الغصن الخبيث وهو ما زال غضّاً.
لم تقتل منابر ومدارس ومناهج داعش "الاعتدال" فحسب؛ بل ضربت الفقه والتفسير للقرآن والحديث، وأنتجت ظاهرة مجتمعية للتطرف الإسلامي.
الحكومة العراقية بعد تعاظم قدراتها العسكرية وانتصاراتها على داعش في جغرافيا العراق بدأت تستأنس بالرأي القائل: إن هذا النصر غير كامل ما لم يتم اجتثاث الفكر الداعشي، غير أنه سرعان ما أهملت هذه البرامج والحلول بسبب انصرافها لأزمة استفتاء كردستان، وأصبحت تخوض نزاعاً وجدلاً قومياً وعصبياً بعيداً عن ميدان اجتثاث داعش من جذورها.
كان صراع منابر الوقف السني ومنابر داعش صراعاً بين ثقافتين: إسلام العراق المنفتح، وإسلام الخوارج المتطرف.
لكن داعش تفوقت بما تمتلكه من مركزية في إدارة منابرها وأنصارها، وأيضاً نجحت في نشر تسقيط وجرح وذم خطباء وعلماء منابر الوقف السني والمجمع الفقهي العراقي، ودار الإفتاء، ومجلس علماء العراق، وحتى أعيان هيئة علماء المسلمين، فصار المتدين السني ضحية الأصولية الخارجية في المدن المحتلة من قِبَل داعش.
كان مطلب عشائر وأحزاب المدن المحررة الموالين للحكومة، أن يتم التعامل بمهنية مع "بيضة داعش" الذين هم أسر وأبناء والمتعايشون تحت سقف بيت كان فيه داعش مبايعاً "منتمياً تنظيمياً" أو مناصراً، كحل لأزمات المجتمع المحرر هو حلّ ارتآه وجهاء وأعيان العشائر السنية وحتى الزعامات الدينية، وكانت حلول الحكومة تتأرجح بين معسكرات العزل اللاإنسانية وبين غض الطرف عن العقوبات الجماعية العشائرية "جلاء عشائري، منع العودة، الديات، الثأر بهدم البيوت، الإخفاء القسري، الاغتيال العلني".
ولكنها حلول أخذت بالتضعضع لاحقاً، فأصبحت تسيء إلى سمعة الحكومة العراقية وأيضا أصبحت حديث المنظمات الحقوقية والإنسانية، مشكلة "بيضة داعش" أن العديد ممن يقع عليه هذا الوصف قد يتجاوز المائة ألف، وأن العديد ممن وقع عليه عقوبة الجلاء القسري منهم قد يزيد على ثلاثة آلاف عائلة في نينوى وصلاح الدين والأنبار وحزام بغداد وديالى، وأن العديد ممن تعرض لعمليات ثأر انتقامية يزيد على ألف عائلة، بعضها تعرض للقتل، والآخر للخطف وهدم البيوت ودفع الديات.
ما تخشاه بغداد أن يفقس هذا البيض وتصنع لنا مدرسة تخرج الدواعش، وسرعان ما يظهر لنا جيل جديد من الإرهابيين لقتال التعايش والاعتدال النامي، وقد يكون التالي أكثر سوءاً من السابق، وخاصة أن بعض تلك الأسر والعوائل هم مَن خرج للإرهابيين مراكز قيادية في داعش.
هناك العشرات من الأدلة على أن الظروف الأسرية هي التي صنعت بعض الدواعش، نعم الأسر السنية المعتدلة أسر معادية للتطرف، ولكن ظروف الاحتلال الداعشي والتعايش معه جعلت الانتماء والإيمان به ممكناً ومقبولاً.
حرق كتب الدعوة السلفية والمدرسة النجدية ومنعها من التداول، ولو احتجاجاً، يدخل في جملة الحلول النازية التي أثبتت فشلها في غير ما مناسبة عبر التاريخ؛ لأنه يفترض أن يتم إبطال التطرف بالحجج الدامغات، وأن "القضاء على الأفكار يكون بالجدل والمناظرات والردود العلمية"، وإنما يصحح الفكر بالفكر.
سقطت الكنيسة الكاثوليكية بورطة حينما أيّدت السياسي النازي أنتي بافليتش في كرواتيا، وهو يقول: "اقتل ثلثاً، و اطرد ثلثاً، وأدخل ثلثاً للمسيحية". عند ذلك انتصر الخصوم ودخلت الكنيسة في الشر الذي حاولت أن تتخلص منه.
وكان الأولى بالحكومة العراقية أن تجعل من اليوم الذي يلي النصر على داعش في المدن المحررة يوماً للعدالة الانتقالية وليس يوماً للعدالة الانتقائية أو الشفاعات السيئة فحتى "بيضة داعش" تم التعامل معها بتحيز "بيض داعشي أبيض" من يدفع الرشوة أو من وراءه عشيرة قوية أو قريب لسياسي أو حكومي، و"بيض داعشي أحمر" من لا مال له ولا قريب، وبالتالي أصبحت تحت ضغط قانون العشيرة والمناطقية والجماعات المسلحة.
ليس من العدالة المقارنة بين بيض داعش قد يتفاضلون ويتفاوتون في الشر والإرهاب.
ولا أقول إن بيض داعش الأبيض كان خيراً من الأحمر أو بالعكس، ولكن البعض من عوائل داعش كان شراً من أبنائها، وعليه ينبغي التنبه لهذه المعضلة الكبيرة قبل أن يفقس البيض في زمن لسنا بقادرين على دحر شرّه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.