السعودية: تحديث السلطوية

ولتبرير ما يبدو كما لو كان ثورة داخل البلاط الملكي، يؤكد محمد بن سلمان أن ما يفعله يأتي من أجل مواجهة التحديات الإقليمية، لا سيما ما تسميه السعودية "التوسع الإيراني" في المنطقة، وهو التبرير نفسه الذي استُخدم لتمرير الحرب على اليمن. وثانياً لتعزيز إصلاحاته الاقتصادية والاجتماعية التي تم تسويقها بضجة كبيرة في "رؤية 2030"، بمساعدة شركة ماكنزي الأميركية للاستشارات.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/05 الساعة 11:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/05 الساعة 11:28 بتوقيت غرينتش

تشن المملكة العربية السعودية منذ 9 سبتمبر/أيلول 2017 حملة اعتقالات، طالت عددًا كبيرًا من الشخصيات العامة، المختلفة في توجهاتها الفكرية، والتي تشترك في قاسم واحد، هو عدم اتخاذها موقفا من "الأزمة القطرية".  هذه الموجة من القمع تمثل نقطة تحول في نمط الحكم التقليدي في المملكة مع صعود جديد للرجل القوي: محمد بن سلمان.

ربما لا تكون حملة الاعتقالات هذه بالجديدة، فالسعودية درجت على توقيف معارضي الحكومة، لكن الأمر مختلف هذه المرة وفي هذا التوقيت. من ناحية، طالت الاعتقالات شخصيات عامة، من أهم المؤثرين على الساحة، بينهم الشيخ سلمان العودة، الذي يحظى حسابه على موقع تويتر بمتابعة ما يقرب من 14 مليون شخص.

كما شملت الاعتقالات شخصيات تنتمي إلى أيديولوجيات مختلفة أو حتى متناقضة. فمنهم المحافظين المعروفين بمواقفهم المتشددة كالشيخ محمد الهبدان، والشيخ عبد العزيز عبد اللطيف، وهما شخصيتان رائدتان في التيار السروري الذي يدعو إلى المزيد من المحافظة ويرفض الديموقراطية، مع الشيخ سلمان العودة الذي أيّد ثورات الربيع العربي ودعا الى الملكية الدستورية، والذي كان قد أعلن رفضه للتجريم الجنائي للمثلية الجنسية.

كما تضم القائمة أيضا العديد من شباب المثقفين الإصلاحيين، ممن قاموا بدور نشط في الدعوة الى الإصلاح السياسي بعد عام 2011،  من بينهم عبد الله المالكي، الذي درس العلوم الشرعية، الذي لمع اسمه عام 2012 بعد نشره كتابا بعنوان "سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة". ومصطفى الحسن، مؤسس ملتقى النهضة الشبابي الذي يهدف إلى تشجيع المجتمع المدني في منطقة الخليج العربي.

بالإضافة إلى رجل الأعمال الشاب عصام الزامل، الذي يتابعه ما يقارب مليون شخص على تويتر، والذي يقدم انتقادات عميقة للاستراتيجية الاقتصادية السعودية. وأخيرا، ألقي القبض على حسن المالكي، العدو اللدود لما يُ

التهمة: قطر!

وإذا تجاوزنا الخلفيات المتنوعة للمعتقلين، فما يثير هذه المرة هو الأسلوب الذي تمت به الاعتقالات، ففي الماضي كان الاعتقال للشخصيات العامة المطلوبة يتم بإرسال استدعاء بالحضور إلى مركز الشرطة. أما في حملة الاعتقالات الأخيرة، فقد تم القبض على معظم المعتقلين من منازلهم، وأمام أسرهم دون مراعاة، "كما لو كانوا إرهابيين" بحسب ما صرح به صديق مقرب من أحد المعتقلين. كذلك كشفت شهادات عديدة، استجواب وتهديد عشرات آخرين قبل الإفراج عنهم بعد تعهدهم بعدم معارضة القرارات الحكومية.

ولأول مرة، لا تقوم وزارة الداخلية بإدارة الاعتقالات، ولكن هيئة جديدة أنشئت في تموز/ يوليو 2017، هي رئاسة أمن الدولة، والتي تتبع الديوان الملكي مباشرة، ويقال انها تعتمد على مستشارين من أمن الدولة المصري (إذا تأكد ذلك، فلن يكون التشابه بين اسم رئاسة أمن الدولة بالجهاز الأمني المصري من قبيل المصادفة). وعلى الرغم من أن السلطات لم تعلن حتى الآن عن قائمة بأسماء المعتقلين، إلا أن بيانًا صحفيًا صدر في 12 سبتمبر/أيلول 2017 جاء فيه أن "الشرطة قد بدأت في عملية تفكيك (خلايا تجسس استخباراتية) تعمل لصالح قوى أجنبية".

ولمن يتابع الأخبار في الخليج، لا يوجد شك في أن دولة قطر هي "القوى الأجنبية" المشار لها في البيان. وفي الأيام التي تلت حملة الاعتقالات، أشارت مقالات صحفية من مصادر مختلفة إلى "الأزمة القطرية" باعتبارها السبب الرئيسي لحملة الاعتقالات. ومثلهم مثل الكثير من السعوديين الذين لم يتحمسوا للحملة الأخيرة ضد قطر، امتنع معظم المعتقلين عن اتخاذ موقف في النزاع القائم بين السعودية والإمارة الغنية بالغاز، حتى إن الشيخ سلمان العودة، في تغريدة نشرها قبل يوم واحد من اعتقاله، عبّر عن ارتياحه بأخبار المصالحة المحتملة بين الأشقاء الخليجيين (والتي سرعان ما تم نفيها من قبل السلطات السعودية).

وقد تكون الأزمة القطرية بالفعل، وانزعاج السلطات من هذا الحياد الذي أبداه بعض السعوديين هي السبب المباشر وراء الاعتقالات. بعد ثلاثة أشهر من الحصار، لم يحقق الرباعي (السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين) الكثير، فليس من المستبعد أن تقرر السعودية التعبير عن غضبها بالانتقام ممن تراهم متعاطفين مع الدوحة.

انعدام الثقة في الإسلام السياسي

بيد أن الاعتقالات التي شنتها الرياض تعود لأسباب أعمق يجب الإشارة إليها: أولها التحول الجذري في علاقة السلطة السعودية بالإسلام السياسي،

فحتى بداية التسعينات، حافظت المملكة السعودية على علاقات وطيدة مع الحركات الإسلامية إذ وفرت لهم المأوى، خاصة الإخوان المسلمين الذين تعرضوا لقمع الأنظمة العربية القومية منذ ستينات القرن الماضي، بل إن السعودية دمجت هؤلاء في جهاز الدولة نفسه واستغلت وجودهم.

وفي الثمانينات تمتع إسلاميون أكثر تطرفًا بدعم المملكة، لا سيما الذين شاركوا في الحرب ضد السوفييت في أفغانستان.

وقد انتقل تأثير هؤلاء الناشطين الإسلاميين الأجانب الى داخل المملكة مؤديا لظهور تيار إسلامي سعودي "الصحوة الإسلامية". وخلافًا لمنتسبي المؤسسة الدينية الرسمية السعودية، لم يتردد هؤلاء في التعبير عن أرائهم بشأن المسائل السياسية المختلفة. فعندما دعى الملك فهد عام 1990 القوات الأجنبية، وغالبها من الولايات المتحدة، للدخول إلى السعودية من أجل حماية المملكة وتحرير الكويت من الغزو العراقي، قوبل مطلبه بمعارضة واسعة للأسرة المالكة من طرف أعضاء تيار الصحوة.

وفي عام 1994، أُلقي القبض على رموز الحركة الاحتجاجية، والذي كان الشيخ سلمان العودة من بينهم، وسُجنوا لسنوات قبل أن يُفرج عنهم. وفي 2002 أعلن الامير نايف، وزير الداخلية السعودي حينها أن "الإخوان المسلمين هم أس البلاء في المملكة".
وبعد أن شهد الربيع العربي صعود الإسلاميين إلى الحكم في مصر وتونس، ودعم إسلاميي السعودية لرفاقهم، ازداد التوتر السعودي وتضاعف انعدام الثقة.

استغل الإسلاميون السعوديون الربيع العربي ليطالبوا بإصلاحات في المملكة، وتعددت النداءات عام 2011 لهذا الغرض. لكن الأمر انقلب عليهم عام 2013، مع دعم السعودية الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي، ثم إعلان المملكة تصنيف جماعة الإخوان المسلمين "وكل الحركات والمجموعات التي تشبهها" باعتبارها منظمات إرهابية. أدرك الإسلاميون السعوديون أن سيف السلطة مسلط على رقابهم، وقد بدأت الاعتقالات بالفعل عام 2013، و2014، خاصة بين النشطاء الحقوقيين، ثم في 2016. لكن في كل هذه المرات كانت الاعتقالات تطال أعدادًا صغيرة ورموزًا ثانوية، حتى جاءت الحملة الكبرى في سبتمبر/ أيلول 2017.

اختلال توازن اللعبة

تعود الاعتقالات أيضًا لسبب جذري ثان، وهو سبب بنيوي في طبيعته، يرتبط بالتحول الذي طرأ على النظام السعودي خلال العامين الماضيين. فقبل 2015 تبنت السعودية نظام الحكم السلطوي التقليدي يمكن وصفه بـ"ما قبل حداثي"، لم تكن الدولة السعودية ذلك "الوحش البارد" مثلما كانت الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال، لكنها احتفظت بنمط خاص من السلطة السياسية الأبوية. تحت نظام مثل هذا، كانت الصراعات السياسية تُحل بالاحتواء المدعوم بالثروة النفطية العائلة، ولم يكن  يُنظر إلى القمع إلا باعتباره الملاذ الأخير الذي ينبغي تفاديه قدر المستطاع.

كانت الدولة مفككة أيضًا، حيث يتقاسم أفراد الاسرة المالكة السلطة، وكان عند كل واحد منهم مجاله الخاص وتابعين له. كانت ممارسة السلطة في السعودية بهذا الشكل خاضعة لتوازن دقيق ودائم، بين أجنحة سياسية وتيارات إجتماعية  مختلفة. وهو التوازن الذي سمح، بالحد الأدنى، بوجود شكل من التنوع السياسي.

شهدت الألفية الجديدة نقاشًا حيويًا بين "الإسلاميين"، و"الليبراليين"، على اختلاف توجهاتهم. في البداية كانت السجالات تتم على صفحات الجرائد، قبل أن ينتقل إلى وسائل التواصل الاجتماعي، كل يدافع عن مشروعه، ورؤيته للمجتمع، حول قضايا مثل حق المرأة في قيادة السيارة. بالطبع، كانت هذه النقاشات بعيدة عن التأثير في القرار السياسي الذي ظل حقًا أصيلًا لأفراد العائلة المالكة، لكن على الأقل، كان الحوار موجودًا.

محمد بن سلمان: الشخصية القوية

يتم تجاوز هذا النظام بأكمله منذ 2015 مع صعود الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد، وابن الملك، والذي يبلغ من العمر 30 عامًا تقريبًا، بمساعدة والده لتكون في يده مقاليد حكم البلاد. ولهذا الهدف، هُمش منافسوه في العائلة المالكة جميعًا بشكل تدريجي، بل أُخضع بعضهم للإقامة الجبرية مثل الأمير محمد بن نايف الذي جُرّد من مناصبه جميعًا منذ تموز/يوليو2017. وكذلك بعض الأمراء المؤثرين مثل الأمير عبد العزيز بن فهد، نجل الملك الراحل. يبدو الهوس الحقيقي لمحمد بن سلمان الآن متمحورًا حول بناء نموذج من السلطة الرأسية التي تنتهي إلى شخصه مباشرة، على الرغم من أن النظام السعودي كان مبنيًا بشكل كامل على فكرة التوازن الأفقي.

ولتبرير هذا التحول الجذري، يؤكد محمد بن سلمان أن ما يفعله يأتي من أجل مواجهة التحديات الإقليمية، لا سيما ما تسميه السعودية "التوسع الإيراني" في المنطقة. وثانيًا لتعزيز إصلاحاته الاقتصادية والاجتماعية التي قدمت في "رؤية 2030″، بمساعدة شركة ماكنزي الأمريكية للاستشارات.

ويتضمن هذا المشروع إسكات جميع الأصوات المعارضة، بغض النظر عن مصدرها. وهو التحول الذي تم قبل أكثر من عقد في الإمارات العربية المتحدة تحت حكم محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي والملهم الرئيس لمحمد بن سلمان.

في الرياض، يغمغم البعض أن هدف التغييرات الأخيرة هو استيراد النموذج الإماراتي للملكة، وهو النموذج الذي يستهوي الأمير الشاب. الهدف الذي يشكك الكثيرون في واقعيته، بالنظر إلى الاختلافات الديموغرافية والأنثروبولوجية التي تفصل بين البلدين.

يمثل محمد بن سلمان الصورة الأحدث في العالم العربي لـ"المستبدّ المستنير". وفي غياب أي منجزات اقتصادية، على الأقل حتى الآن، يبدو أن الذي تم تحديثه هو النظام السلطوي السعودي الذي يعتمد على آليات جديدة لم تكن مستخدمة من قبل.

يقول الصحفي جمال خاشقجي، الذي رأس تحرير صحيفة الوطن السعودية، المؤيد القديم للحكومة السعودية، والمنفي الآن اختياريًا في الولايات المتحدة،: "لم يكن القمع في السعودية أبدًا هكذا، القمع الآن لا يُحتمل".

إن السعودية الآن تتحول إلى دولة عربية نمطية تشبه جيرانها، وبالنسبة للمجتمع المدني السعودي هذه ليست أنباءًا طيبة على الإطلاق.

نُشر هذا المقال بالفرنسية لأول مرة في موقع orientxxi.info

علامات:
تحميل المزيد