العراق.. من المقاومة الشعبية إلى الحشد الشعبي

هذه المقدمة لا بد منها حتى نعرف أن الدولة كانت تعتمد على مؤسسات، ولم تكن بحاجة إلى إجراءات استثنائية لتحشيد الشعب، إلا في حالات الطوارئ مثل الفيضانات التي كانت تدفع الدولة إلى الاستعانة بالمواطنين لدرء أخطارها، وتنتهي هذه المهمة بانتهاء الحاجة لها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/09 الساعة 04:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/09 الساعة 04:31 بتوقيت غرينتش

تميز العهد الملكي في العراق بالاتجاه نحو تأسيس دولة وفق الأسس العلمية المعترف بها في الإدارة العامة، وذلك عن طريق خلق مؤسسات تخصصية تدير مرافق الدولة.

وبالرغم من أن التجربة الديمقراطية لم تكن بالمستوى المطلوب؛ حيث قد اكتنفها الكثير من الممارسات الخاطئة، فإن التداول السلمي للسلطة كان سائداً آنذاك، ولم يكن الملك يتدخل كثيراً بشؤون الدولة.

إن تجربة الحكم آنذاك كانت حديثة العهد؛ لأن العراق كان قد عانى من التخلف والاستبداد ردحاً طويلاً من الزمن تحت سلطة الدولة العثمانية.

ولذلك شاب هذه التجربة الأخطاء، وأحياناً الفساد السياسي، وإذا كان الشعب قد ضاق ذرعاً بالحكم، فإن ذلك يعود إلى الطموح الكبير الذي زاد من سقف توقعاته، فاتهم الحكومة بالقصور وهو لا يعرف محدودية الموارد المالية وقتها.

هذه المقدمة لا بد منها حتى نعرف أن الدولة كانت تعتمد على مؤسسات، ولم تكن بحاجة إلى إجراءات استثنائية لتحشيد الشعب، إلا في حالات الطوارئ مثل الفيضانات التي كانت تدفع الدولة إلى الاستعانة بالمواطنين لدرء أخطارها، وتنتهي هذه المهمة بانتهاء الحاجة لها.

بعد انقلاب أو ثورة 14 يوليو/تموز 1958 أصبح الزعيم عبد الكريم قاسم رئيساً للوزراء، ولشعوره بأن بعض أصناف الجيش غير موالية له، أو أنه خشي من مغامرة انقلابية ضده على غرار ما فعله هو بالملك، فإنه سعى إلى تشكيل تنظيمات شعبية مسلحة لحماية حكمه تحت اسم المقاومة الشعبية لصيانة النظام الجمهوري، أي لصيانة حكمه.

وقد استغل الشيوعيون المقاومة الشعبية هذه فحاولوا السيطرة عليها ثم احتواءها من قِبلهم بشكل نهائي، وانضم الآلاف من الشباب والشابات إلى هذه المنظمة الجديدة.

لقد كانت المقاومة الشعبية تمارس شتى أنواع المضايقات والاعتداءات على قطاعات واسعة من الشعب، تحت شعار: لا حرية لأعداء الشعب.

ولم يكن أحد يعرف مَن هم أعداء الشعب فعلاً، وقد كان الاعتقاد السائد أن كل مَن لم ينضِ إليهم هو من أعداء الشعب.

وفي عام 1959 شعر عبد الكريم قاسم أن هناك تململاً للضباط في الموصل يساندهم بعض الأهالي من العرب، فسمح للشيوعيين بعقد مؤتمر أنصار السلام فيها، وقد كان هذا المؤتمر تظاهرة شيوعية مضادة لكل مَن يخالفهم.

ولما شعر الضباط بالخطر المحدق بأهالي الموصل نتيجة هذا العدد الكبير من الشيوعيين القادمين من بغداد ومحافظات أخرى، تساندهم بعض الفئات المحلية، قاموا بالعصيان والتمرد ضد رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، وشغلوا محطة إذاعة محلية تذيع أخبار هذا التمرد أو المحاولة الانقلابية، فهبّ الشيوعيون ومناصروهم بحجة الدفاع عن السلطة؛ ليعملوا قتلاً وتمثيلاً بأهالي الموصل، وعلّق الشباب والشابات على أعمدة الهاتف، وقد دب الرعب في المدينة التي استبيحت من قِبل الشيوعيين ومناصري الزعيم عبد الكريم قاسم.

ثم انتقلت المجازر البشرية ضد المواطنين في الموصل إلى كركوك، وعانى العرب والتركمان فيها من تقتيل وتمثيل بالجثث، وكان الشعار السائد آنذاك: "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة"، أي حبال المشانق التي انتشرت في كل أرجاء المدينتين المنكوبتين.

في وقت لاحق سألت أحد قياديي الحزب الشيوعي عن أسباب العنف المفرط هذا، وفقدان السيطرة على الشارع، فأجابني بأن الغوغاء أو العناصر الجاهلة من الشعب هم الذين قادوا تلك المرحلة، وقد كان المفترض أن الحزب الشيوعي هو الذي يقود الجماهير وليس العكس.

هذا ملخص بسيط لممارسات المقاومة الشعبية التي استباحت الشارع العراقي خلال فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، تحت ذريعة حماية الثورة ونظام الحكم.

بعدها وفي يوم 8 فبراير/شباط من عام 1963 قام البعثيون بانقلاب دموي ضد الزعيم عبد الكريم قاسم، وتصدى أنصاره ومؤيدو الحزب الشيوعي لهذا الانقلاب فتم قمعهم بقسوة.

حيث تم استخدام الطائرات والدبابات في ضرب وزارة الدفاع التي كان الزعيم متواجداً فيها، كما ضرب المتظاهرين المؤيدين له بالطائرات أيضاً، بعدها تم إعدام الزعيم عبد الكريم قاسم، ثم أعلن عن تشكيل الحرس القومي كميليشيا شعبية لحماية النظام الجديد، وانتظم فيها الآلاف من البعثيين والقوميين، وقد كان السبب في تشكيلها هو الخشية من الجيش الذي لم يكن في وقتها موالياً تماماً للحكم الجديد، وهي نفس الذريعة التي شكلت على أساسها المقاومة الشعبية في زمن عبد الكريم قاسم.

وقام الحرس القومي البعثي بجرائم لا تقل بشاعة عن جرائم المقاومة الشعبية ضد الشيوعيين المعتقلين وضد المناوئين لهم في السجون وفي النوادي الرياضية التي اتخذت كمقرات للحرس القومي ومعتقلات لأنصار الشيوعيين، والقاسميين.

وهكذا تجددت مظاهر العنف والقوة المفرطة باسم حماية النظام أو مكتسبات الثورة كما كان يطلق على انقلاب البعثيين في الثامن من فبراير/شباط.

وعاث الحرس القومي فساداً في الأرض كما كانت المقاومة الشعبية تفعل خلال نظام حكم عبد الكريم قاسم.. حتى قام العقيد عبد السلام عارف، رفيق درب عبد الكريم قاسم وعدوّه بعد ذلك، بانقلاب آخر ضد رفاقه البعثيين الذين نصبوه رئيساً للجمهورية، ولم يمضِ على حكم الحزب سوى تسعة أشهر فقط، فتم حل الحرس القومي وتصفية البعثيين.

أيضاً في عام 1968 قام البعثيون بانقلاب على عبد الرحمن عارف، رئيس الجمهورية، وأبعدوه إلى تركيا، وتم تنصيب أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية، وصدام حسين نائباً له، فتم تشكيل الجيش الشعبي لنفس الغرض دائماً، وهو حماية النظام الجديد من أي محاولة انقلابية، وهو أيضاً ميليشيا عسكرية تدين بالولاء للنظام الجديد، وفي وقت لاحق الولاء لشخص صدام حسين.

وقد استغل صدام هذا التنظيم لتصفية خصومه قبل أن يتطور جهاز المخابرات العامة ليصبح بعدها القوة الضاربة لصدام حسين، ولم يتم حل الجيش الشعبي رغم ضعف الاعتماد عليه بعد تصفية الجيش من العناصر المناوئة للحزب.

عاد نشاط الجيش الشعبي بقوة بعد الحرب العراقية – الإيرانية؛ حيث حاول صدام خلق حالة من التوازن العسكري مع الإيرانيين الذين كانوا يفوقون القوات المسلحة العراقية بالعدد رغم ضعف إمكانياتهم التسليحية، فنشر قطعات الجيش الشعبي على طول الحدود مع إيران، كما تم إشراكه في كثير من المعارك.

وبالرغم من أن إشراك المواطنين البسطاء في تشكيلات هذا التنظيم الشعبي العسكري كان باسم التطوع، فإن قيادات الفرق والشعب لحزب البعث قد قامت بدور غير مشرف في اختطاف المواطنين من الشارع أو من بيوتهم واقتيادهم قسراً للمشاركة بهذه الحرب.

وكان نتيجة ذلك قتل وأسر العديد منهم وهم لا ناقة لهم ولا جمل بهذه الحرب التي طبل لها الحزبيون البعثيون تحت شعار حماية البوابة الشرقية للوطن العربي، أو محاربة الفرس نيابةً عن العرب والعالم أيضاً.

وهكذا تم اضطهاد المواطنين وإجبارهم على الدخول في الحرب عن طريق ميليشيات عسكرية، ولم يسلم الشعب منها حتى بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية؛ حيث أدخلهم صدام بحرب احتلال الكويت وتمت إبادة العديد منهم مع الجيش النظامي.

وعند احتلال العراق من قِبل الأميركان عام 2003 تحت مسمى التحالف الدولي، وإحلال الأحزاب التي كانت تسمى بالمعارضة محل حزب البعث في إدارة الدولة الجديدة.

عملت هذه الأحزاب على إنشاء ميليشيات عسكرية لها لفرض سيطرتها على الشارع العراقي، وقد ساهمت هذه الميليشيات مساهمة فعالة في قتل وتصفية المناوئين لها من كل قطاعات الشعب ولم يسلم حتى الأدباء والفنانين والمثقفين من التصفية الجسدية بحجة أنهم بعثيون أو موالون للنظام السابق.

وهكذا عادت الميليشيات العسكرية لتضطهد الشعب بحجة حماية الحزب أو الحكم الجديد.

لم تكن هذه الميليشيات تختلف كثيراً عن المقاومة الشعبية أو الحرس القومي أو الجيش الشعبي، إنها تسميات مختلفة ولكنها تتشارك بالأهداف والوسائل وهي حماية النظام أو حماية الأحزاب بغض النظر عن الوسائل العدوانية ضد الشعب العراقي.

بعد سيطرة ما يسمى بتنظيم الدولة أو داعش على بعض المدن نتيجة خذلان القادة السياسيين أو تآمرهم على العراق، أصدر السيد السيستاني فتوى الجهاد الكفائي لمواجهة العدو الجديد المفتعل، واستجاب الآلاف لهذه الفتوى بدافع ديني أو وطني.

وقد كانت هذه الفتوى مرهونة وجوداً وعدماً بالخطر الداعشي على العراق وشعبه، ولكن الأحزاب الحاكمة قد استغلت هذه الفتوى لتضفي بعض الشرعية على ميليشياتها ذات الأهداف المشبوهة والمعادية للوطن والمواطن، والتي ساهمت في حماية الفاسدين وسرقة قوت الشعب، وما زالت كذلك من دون وازع من ضمير أو أو دين، حتى إن السيد الصدر قد سماها الميليشيات الوقحة، وهذه التسمية مخففة بالنسبة للجرائم المرتكبة من قبلها. ويضاف إليها عصابات إجرامية مسلحة تبتز المواطنين باسم الحشد الشعبي.. ولكي ينزه الحشد الشعبي فقد أطلق عليه الحشد الشعبي المقدس، ولا نعلم من أين جاءت القدسية هذه، فيما عدا طبعاً المنضوين إلى الحشد استجابة لفتوى المرجعية الدينية.

لم تكن فصائل الحشد الشعبي تقتصر على الأحزاب الكبيرة فقط، بل انشطرت إلى كتائب مسلحة بتسميات عديدة، مثل منظمة بدر، وحركة النجباء، وكتائب الإمام علي، وكتائب بابليون، وسيد الشهداء، وسرايا السلام، وعصائب أهل الحق، وسرايا الخرساني، والتيار الرسالي، وكتائب أسد الله، وتشكيلات أسد الله الغالب، وأنصار الحجة، وأبو الفضل العباس، وقوات الشهيد الأول، وحزب الله العراقي، وسرايا عاشوراء، وسرايا الجهاد والبناء، وجند الإمام، وقوات وعد الله الصادق، وجيش المختار، وسرايا الزهراء، ولواء المنتظر، والصادق الموعود، والثائرون، وكثير غيرهم.

حتى إن السيد رئيس الوزراء قد صرح مرة بأن هناك أكثر من مائة فصيل تنتسب إلى الحشد الشعبي.

ورغم أن الحشد الشعبي قد نظم بقانون فإن ارتباطه بالقائد العام للقوات المسلحة ظل حبراً على ورق، وكثير من هذه الفصائل تتبع أوامر قيادات أحزابها مباشرة وتنفذ أجندات غامضة.

ويبدو أنها تنفذ هدفاً واحداً هو خلق حالة الفوضى وتشتيت جهود الدولة لتسهل السيطرة عليها، إضافة إلى إضعافها لقوات الجيش النظامية، واعتبار الانتصارات على داعش انتصارات لها فقط، غافلة بذلك تضحيات أبناء العراق الغيارى من القوات المسلحة والشرطة الذين استبسلوا لانتزاع أراضٍ عزيزة من يد طغمة فاسدة تدعي الإسلام.

إن منظمة العفو الدولية (أمنستي) قد قدمت شهادات على ممارسات باسم الحشد الشعبي قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية قد ارتكبت خلال المعارك أو في مناطق مختلفة من العراق.

كما أن أعمال قتل وحشية وتمثيل بالجثث قد سجلت على بعض الفصائل الحزبية الحاكمة، مما دعا الناطق بلسان الحشد الشعبي وبعض قياداته للطلب من القائد العام للقوات المسلحة بأن تكون مقرات الحشد الشعبي خارج المدن، وكذلك الطلب بالتشديد على حصر السلاح بيد الدولة فقط، وعدم السماح لأي فصيل أو ميليشيا بحمل السلاح داخل المدن، ورغم ذلك فإنها ما زالت تبتز المواطنين وتعتدي على الأملاك العامة وتتاجر بالمخدرات تحت لافتة الحشد الشعبي المقدس، والبعض منهم حتى لم يشارك بأي جهد لتحرير المدن من العدو المجرم.

إن ميليشيات الأحزاب المتنفذة والحاكمة الحالية لا تختلف في جرائمها عما قامت به المقاومة الشعبية أو الحرس القومي والجيش الشعبي، وكلها ميليشيات مسلحة استخدمت اسم الوطن والمواطن لتنفيذ مآربها وأهدافها المعادية للشعب.

وعلاوة على ذلك، فإن بعض السياسيين يطمح للعودة إلى الحكم عن طريق تبنّي المواقف الداعية إلى عدم المساس بالحشد الشعبي، أو إعادة تنظيمها للتعكز عليها في الانتخابات القادمة، وسحب البساط من رئيس الوزراء أو المؤسسات الرسمية للدولة، في مؤامرة مفضوحة للاستيلاء على الحكم.

إن الضرورة تستدعي إعادة النظر بهذه التنظيمات المسلحة للحفاظ على الدولة ومؤسساتها النظامية من الجيش والشرطة؛ حيث إن تعدد الفصائل المسلحة سيؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى التصادم فيما بينها نتيجة للخلافات والصراعات بين الأحزاب الحاكمة للاستحواذ على سلطة الدولة وثروة الشعب المنهوبة أصلاً.

إن الواجب الوطني يدعونا جميعاً لإعادة بناء دولة المؤسسات على وفق الأسس العلمية والحضارية وليس على أسس حزبية أنانية ضيقة لا يستفيد منها سوى قادة الأحزاب والموالين لها، وأن ندع شعبنا العراقي ينعم بالأمن والسلام بعيداً عن عسكرة الشعب التي طغت على حياته لفترة تجاوزت النصف قرن، وأدت إلى قتل الآلاف من الشباب بحجج خادعة وشعارات براقة، لم نجنِ منها سوى الخيبة والتخلّف عن ركب العالم المتقدِّم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد