ما بعد الموجة الثالثة والربيع
صاحَب انطلاق الموجة الثالثة للديمقراطية تفاؤل كبير في صفوف الباحثين المهتمين بدراسة الأنظمة السلطوية أن هذه الموجة ستعرف انتشاراً، وأن الديمقراطية ستجد طريقها إلى باقي المناطق الممانعة للانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية.
هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، بل تحول إلى تشاؤم عكسته المعطيات على أرض الواقع من أمثلة لدول عادت خطوات إلى الوراء، خاصة بعض دول أوروبا الشرقية وآسيا وأميركا اللاتينية، فعوض تعميق التحول الديمقراطي لوحظ بروز جيل جديد من الحكام استعملوا الوسائل التي تتيحها العملية الديمقراطية (من انتخابات وحكومة وبرلمان)، لكن أفرغوا هذه الوسائل والمؤسسات من ماهيتها، التي بها تتحدد القيمة الأساسية للنظام الديمقراطي.
بعد سنوات على هذا التراجع، جاءت الثورات في جزء من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وعاد معها التفاؤل ولكن بشكل حذر من إمكانية دمقرطة أنظمة إحدى أكثر المناطق في العالم عصية على الولوج إلى نادي الدول الديمقراطية.
المغرب جزء من هذه المنطقة اعتبر كنموذج؛ نظراً لقيامه بإصلاحات سياسية هدفَ منها لإعطاء الانطباع بوجود تحول حقيقي في نمط ممارسة الحكم وأن هناك اتجاهاً نحو بلورة شكل معين من أشكال الانتقال السلمي إلى الديمقراطية، هنا تجب الإشارة إلى أن مسلسل الإصلاح المؤسساتي قد بدأ مع وصول الملك محمد السادس إلى الحكم نهاية تسعينات القرن الماضي، حين ساد في الوسط السياسي والإعلامي في المغرب خطاب الانتقال الديمقراطي والمفهوم الجديد للسلطة والعهد الجديد التي رُوِّج لها خلال تلك الفترة.
بعد ما يقارب الثمانية عشر سنة من حكم الملك محمد السادس وجب التساؤل عن كيف يمكن تقييم مصير ما سمي بالانتقال الديمقراطي الذي طال الحديث عنه في السياق المغربي؟ بعبارة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار الإصلاحات السياسية والدستورية التي شهدها المغرب خلال العقدين الأخيرين، هل يمكن الإقرار بانتهاء أفق الانتقال الديمقراطي حيث هناك توجه على أرض الواقع نحو تبني الصيغة الأصلية لأسلوب الحكم في المغرب، أي ما يعرف بالملكية التنفيذية؛ حيث يسود الملك ويحكم؟
في البحث عن الشرعية الديمقراطية
أي نظام سياسي مهما كان عمق تجذره في التاريخ، وسواء كان ديمقراطياً أم لا فإنه في حاجة دائمة إلى تجديد شرعيته، بالنسبة للأنظمة الديمقراطية فالأمر يكون واضحاً؛ إذ تستمد السلطة السياسية شرعيتها من مبدأ سيادة الشعب وما يرتبط بهذا المبدأ من فصل للسلطات ومراقبة بعضها البعض ومسؤولية المنتخبين امام ناخبيهم.
أما الدول غير الديمقراطية فكانت إلى وقت ليس ببعيد تبني شرعية نظمها على مرجعيات مختلفة، فمثلاً بعضها كالنظام المغربي يعتمد، وما زال كذلك، على الدين والتاريخ من خلال إمارة المؤمنين والارتباط التاريخي للدولة المغربية بالأسرة العلوية التي تحكم المغرب منذ ما يزيد عن الثلاثة قرون.
دول أخرى في الشرق الأوسط اشتهرت باعتمادها على الأيديولوجيا؛ حيث سوقت لنموذج الدولة الاشتراكية العروبية الذي تبنته بعض الأنظمة العسكرية مثلاً في مصر وسوريا والعراق وليبيا.
مع بداية القرن الواحد والعشرين حصل هناك تحول نوعي، وأصبح مختلف تلك الشرعيات لا يتناسب مع العصر؛ نظراً لتغير المناخ العالمي مع تصاعد خطاب الدمقرطة، وقد فطنت بعض الأنظمة لهذا التحول و عملت على التأقلم مع الأوضاع الجديدة حين ركزت في خطابها على الديمقراطية والتحول الديمقراطي كآلية جديدة لإعادة إحياء شرعيتها المتلاشية.
في هذا الإطار ودون أخذ جوهر النظام الديمقراطي تم فقط استغلال الآليات الشكلية التي تتيحها الديمقراطية كنظام حكم، حيث تم العمل على صبغ النظام بواجهة ليبرالية من خلال منح هامش محدد من الحرية السياسية، خصوصاً للتنظيمات السياسية المعارضة، وإجراء انتخابات دورية مع التراجع تدريجياً عن التزوير الفاضح لنتائج هذه الانتخابات، وأيضاً وجود شكل من أشكال التناوب على الحكومة، وليس الحكم، بين مختلف الفاعلين السياسيين، إلى غير ذلك من إجراءات الانفتاح السياسي التي هدفت إلى خلق صيغة جديدة من النظام غير الديمقراطي، لكن بواجهة ديمقراطية.
مجرد انفتاح سياسي وليس انتقالاً
عرف غيليرمو أدونيل و فيليب شميتر الانتقال الديمقراطي باعتباره "الفارق أو المسافة الفاصلة بين نظام سياسي وآخر"، من تجليات هذا الانتقال بداية تفكيك أسس النظام السلطوي وإرساء شكل ما من أشكال الديمقراطية التي من أسسها مأسسة مسلسل اتخاذ القرار يكون فيها الشعب هو صاحب السلطة الحقيقية، يمارسها عن طريق ممثليه الذين يكونون ملزمين (رغبة في إعادة انتخابهم) بتقديم الحساب امام المواطن.
في حالتنا المغربية هل وصل فعلاً الانتقال الديمقراطي إلى مرحلة المأسسة والتمكين الفعلي للمؤسسات المنتخبة، وليس فقط الإصلاحات السياسية الشكلية؟ تكمن الإجابة على هذا التساؤل في النقطتين التاليتين:
أولاً: لا يمكننا الحديث عن انتقال ديمقراطي فعلي بالمعنى المتعارف عليه في الأدبيات المقارنة للانتقال، بل كان هناك انفتاح سياسي الذي لا يرقى إلى مرتبة الانتقال الديمقراطي. هذا الأخير يقتضي التغيير من طبيعة النظام السياسي الذي يتحول من نظام غير ديمقراطي إلى نظام ديمقراطي، الذي فيه تكون مراكز الحكم الرئيسيّة موضوع المنافسة الانتخابية.
أما الانفتاح السياسي، وهو الذي حدث في السياق المغربي زُيِّن ببعض الإصلاحات المؤسساتية، لكن هرم النظام السياسي ظل مغلقاً ضد أي منافسة.
ثانياً: خطاب الانتقال الديمقراطي في المغرب جاء في سياقات معينة كآلية فعالة لتجديد السلطوية، تماشياً مع متطلبات الظروف التي أملت سياسة الانفتاح السياسي.
في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى سياقين مهمين:
السياق الأول: موت الملك الحسن الثاني، وانتقال الحكم إلى الملك الجديد محمد السادس، ومعه كانت الرغبة في إعطاء نفس وصورة جديدة و"منفتحة" للنظام السياسي المغربي على عكس الصورة القاتمة التي كان يمثلها حكم الحسن الثاني.
في هذا السياق يمكن فهم الخطاب "الإصلاحي" الذي رُرج له له آنذاك من قبيل "العهد الجديد" و"المفهوم الجديد للسلطة"، وكذلك قبلهما تجربة ما سمي بـ"التناوب التوافقي" التي كان الغرض منها ضم المعارضة إلى دائرة الحكم كوسيلة لتسهيل انتقال مرن للحكم من الملك الراحل إلى الملك الجديد.
السياق الثاني: الأحداث المفاجئة التي حملتها الثورات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط؛ حيث كان معها ما اللازم في غياب خيارات أخرى بالنسبة للنظام المغربي سوى التأقلم مع "المناخ الثوري" في المنطقة.
في هذا السياق جاءت التعديلات الدستورية لسنة 2011 كرد فعل ذكي من طرف الملكية في المغرب لتجاوز منطقة الخطر.
هذه التعديلات الدستورية لم ترقَ إلى تطلعات الحركة الاحتجاجية؛ نظراً لعدة عوامل، منها أساساً ميزان القوى الذي كان ميالاً لصالح الملكية، إضافة إلى جبن الطبقة السياسية وعدم مسايرتها لمطالب الشارع، بل يمكن أيضاً اعتبار هاجس دمقرطة النظام السياسي المغربي لم يكن رهاناً أساسياً لدى جزء مهم من الطبقة السياسية المغربية التي تعيش من الريع السياسي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.