أصول الحكم بين عصرين

كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، صغير الحجم، له من الصفحات ثمانون، كُتب في زمانه كموقف لحالة سياسية، أراد الكاتب من خلاله أن يدلي برأيه في أمر يخصه ويخص المسلمين جميعاً، هو: رفض تولي الملك فؤاد خلافة المسلمين من دون وجه حق، وهو الطاغية المستبد،

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/03 الساعة 04:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/03 الساعة 04:25 بتوقيت غرينتش

لم أتحمس يوماً لقراءة كتاب، كما تحمست لـ"الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق؛ لذلك، ما إن رأيته مرة، قبل 40 عاماً، مُستلقياً على الرصيف، مع بائع كتب متجول، حتى اشتريته بـ15 قرشاً، وتصفّحته، على الرغم من أنني لم أكن أملك ثقافة ومعرفة كافيتين حينئذ للإلمام جيداً بموضوعه، أو القضايا التي أثارها، ثم وضعته جانباً إلى أن عُدت إليه في نهاية الخمسينات من عمري.

ما شدَّني لقراءة الكتاب، كثرة الجدل الذي أثاره عند مختلف التيارات الفكرية، والثقافية، والسياسية، ومن قبلُ هيئات وأشخاص مختلفي المذاهب والمشارب، باعتباره سابقة جريئة في الفضاء الديني والسياسي، فتحت باباً واسعاً على قضية ما زالت تتفاعل حتى يومنا هذا، نشأت على مفهومها جماعات وأحزاب.

ما هو موضوع الكتاب؟ وماذا أراد منه كاتبه؟
لقد تناول الكتاب قضية الخلافة في الإسلام، فرأى أنها غريبة عنه؛ إذ ليس لها أساس في المصادر الإسلامية من القرآن والسنّة والإجماع، وهي بدعة استُوردت من الفقه الشيعي لتحقيق غايات خاصة بالسلطان، وأن من يُراد لهم التشريع والتصديق على ضرورة الخلافة، قد رفضوها في مواضع أخرى عندما كانت الحاجة تدعو لذلك، "والحاجة تبقى حاجة السلطان".

لقد أحدث ظهور الكتاب فعلاً كفعل إلقاء حجر في بركة ماء راكد، فما إن ظهر حتى هبَّ الجميع، تيارات ومؤسسات وأفراد من مختلف الاتجاهات لتفنيد ما جاء به باعتباره يخالف ما ألِفوه وما ساروا عليه، خصوصاً أن المجتمعات العربية والإسلامية كانت آنذاك تحت سيطرة مؤسسة دينية رسمية استقرت على ما هي عليه، وتجذرت عبر مئات السنين، وإن لم نعدم ظهور دراسات وآراء منصفة للكتاب والمؤلف، اختلفت مع الشيخ في مواضع، وفندت بعضاً من آرائه في مواضع أخرى.

حقيقة، إن سبب الضجة التي رافقت ظهور الكتاب كان بسبب انشغال العرب والمسلمين بقضية الخلافة، بعد أن قام مصطفى كمال أتاتورك بإنهائها عام 1924، ثم محاولة الملك فؤاد، ملك مصر آنذاك، عام 1925 تقديم نفسه خليفة للمسلمين، بمباركة بريطانيا، باعتبار المنصب شاغراً، إضافة إلى السبب الأهم: إرادة الشيخ علي عبد الرازق بالتوجه إلى الناس بموقف سياسي رافض للأوضاع السياسية، التي كان طابعها الطغيان والاستبداد على أيدي الملك وحاشيته.

كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، صغير الحجم، له من الصفحات ثمانون، كُتب في زمانه كموقف لحالة سياسية، أراد الكاتب من خلاله أن يدلي برأيه في أمر يخصه ويخص المسلمين جميعاً، هو: رفض تولي الملك فؤاد خلافة المسلمين من دون وجه حق، وهو الطاغية المستبد، ونقد مؤسسة الخلافة التي يصبُّ وجودها في مصلحة الطغيان والاستبداد ومن وراءهما، وقد حقق الكتاب أهدافه، وعلى أكثر من صعيد، فقد أسهم في وأد حلم الملك وأسرة محمد علي بتولي الخلافة على المسلمين، واكتساب الكثير من وراء المعركة الفكرية التي دارت على هامش الكتاب، فأغنت ونشطت الحياة الثقافية والدينية.

لم يُقصِّر الملك في الرد على الكتاب وصاحبه بكل ما أوتي من قوة، عبر الدوائر الواقعة تحت نفوذه، كالأحزاب السياسية، والأزهر، وشارك آخرون لشأنهم، إلى جانب أصوات خرجت تدافع عن الكتاب وعن كاتبه وإن اختلفت أهدافها، ولم يُعدم تدخُّل بعض الحكماء الذين تناولوا القضية بعقل مفتوح، واتزان، كأصحاب رؤية، وإن جاء في بعض الكتاب ما يدعو للاستفزاز، كوصفه حكومة أبي بكر الصديق والخلفاء الراشدين بأنها حكومة لا دينية، في وقت كانت كلمة لا دينية تعني "الزندقة والإلحاد".

لقد نظر القُصَّر إلى الكتاب وصاحبه، ومن يشايعه، نظرة عداء تستوجب المحاكمة الدينية، وقد نجحت الجهود الملكية في الحصول على مبتغاها، فحُكم على الشيخ علي عبد الرازق بالحرمان من الانتساب إلى الأزهر، والإخراج من زمرة العلماء، ثم أُدين من قِبل الأزهر بما يشبه الردة، وتم تجريده من حقوقه المدنية، وطرده من وظيفته في القضاء، كسابقة تحدث بالأزهر للمرة الأولى في تاريخه.

وكان لذلك أثر سلبي على سلوك الشيخ علي عبد الرازق وتفكيره فيما بعد؛ إذ لم يعد يرغب في الحديث عن كتابه أقط، إلا أنه أُنصف لاحقاً، عندما تراجع الأزهر عن حكمه بعد سنوات، بما يشبه إعلاناً بالخطأ وتصحيحاً له، وبما يعني إسقاط التهم التي وُجِّهت للشيخ، وكانت حالة فريدة من نوعها، ثم أُعيد للشيخ مؤهله العلمي، وأُدخل ثانية في زمرة العلماء.

لا بد لنا في هذا المقام أن نستذكر أمراً مشابهاً تماماً، حدث إلى حد التطابق مع بعض الاختلاف في النتائج، ألا وهو: كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، الذي صدر بعد كتاب الشيخ علي عبد الرازق بـ40 عاماً، وجاء رفضاً لخلافة أخرى، إنما من نوع مختلف، فالأول كتاب والثاني كتاب، الأول أراده كاتبه موقفاً سياسياً والثاني كذلك، والأول كان موجهاً لحاكم والثاني كذلك، والأول أثار الدنيا على صاحبه والثاني كذلك، إنما الفارق هو أن صاحب الكتاب الأول أُعيدت له حقوقه، وأُنصف، من قِبل ملك مصر والأزهر بعلمائه الكبار، بعدما تراجعوا عن خطئهم، وهو فرد، أما الثاني فأُعدِم شنقاً.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد