نجحت الأحزاب الكبيرة في فرض إرادتها على الشعب من خلال دعم الولايات المتحدة في مرحلة 2003 وما بعدها، وهناك جهود إيرانية كبيرة صرفت من أجل إنتاج عالمية التشيع السياسي يعكس رؤيتها السياسية ويساند المقاومة الشيعية المرتبطة بها. لا توجد قاعدة جماهيرية واعية للاحزاب العراقية والبرامج الحكومية التي تمت كتابتها بأساليب تقليدية وضعيفة في السياسة والأمن والخدمات.
صناعة قاعدة جماهيرية تحتاج إلى خطاب وقضية مباشرة وإعلام وتمويل كبير ودعاة وناشرين محترفين، وهذا ما تفتقده الأحزاب الجديدة ومع ذلك أدت التظاهرات والاحتجاجات المدنية دوراً جيداً. الأحزاب الصغيرة لا تستطيع منافسة الأحزاب الكبيرة حيث الإمكانات أقوى والخبرة أكثر، والتمويل الخارجي والدعم الإعلامي وامتلاك القنوات الفضائية. وبعض الناشطين في الحراك المدني لم يكونوا في المستوى التنظيمي المطلوب، وليس لديهم خبرة في صناعة الأكثرية الانتخابية، بالتالي ظهرت العثرات منهم، والتي جعلت تجمعاتهم ضعيفة. من أهم أسباب ضعف الأحزاب الصغيرة طغيان النزعة الثورية على قياداتها الشبابية المغامرة وهي ضعيفة دعائية، وكثير من برامجهم الحزبية سطحية في المعالجة. كذلك الأحزاب المسيطرة على الإدارة والحكم لها دور سلبي في محاولة استخدام وسائل إعلامها في الجانب الدعائي وترويج "مواقفها المسرحية" وتوثيق إنجازاتها الخدمية" إن وجدت" وتسويق مواقفها السياسية الداخلية والخارجية. الإعلام البديل والفن خصوصاً من أهم أسلحة الأحزاب الصغيرة في الصراع مع الأحزاب المسيطرة على الحكم والإدارة في العراق لتعزيز الانتماء والهوية العراقوية وبث روح الوطنية.
تحمل مرحلة الاستقرار النسبي المقبلة في العراق، إمكانية حصول تحولاتٍ مهمةٍ لجهة إعادة تشكيل المشهد السياسي العراقي، وتحديد أوزان القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة فيه. وينظر في البيت السياسي الشيعي إلى إمكانية تحالف الصدر والحكيم والعبادي وإلى تحالف بدر مع أحزاب المقاومة والحشد الشعبي، بالإضافة إلى تحالفات المالكي والآخرين؛ فمن خلال تنافس هذه التحالفات الطامحة لتصبح التحالف الحاكم، في حين تأمل أحزاب البيت الكردي بتعزيز مواقعه في حكومة الاتحادية وزيادة نسب حصصها بالمال والمناصب بوصفها حجر الزاوية في معادلة المحاصصة الطائفية والقوميّة، في حين تتوجس أحزاب وكتل السنة والأقليات والمستقلون أن تلقي هذه الانتخابات بها خارج حلبة نسب المحاصصة والتوافقية. وتمثل مرحلة ما بعد داعش مجالاً لصراعٍ سياسي واقتصادي مفتوح بين الكرد والشيعة على حصص السنة والأقليات، في حين تغيب النقاشات الجادة حول برامج المصالحة والعدالة الانتقالية؛ إذ لا تظهر اختلافات بين الأحزاب الشيعية والكردية من حيث الرؤى الكلية للمصالحة والعدالة الانتقالية في العراق.
الحكومات العراقية بعد 2003 كلها تفتقر إلى الجرأة الكافية، للقيام بإصلاحات حكومية ضرورية ومكافحة الفساد الحزبي وطرد اللجان الاقتصادية المسيطرة على الوزارات، وفي مقدمتها الكهرباء والبلديات والوزارات الخدمية والتربية والتعليم، وإصلاح دوائر المفتش العام والرقابة المالية والنزاهة.. تنظر الكتل الكبيرة إلى قانون الانتخابات البرلمانية المقبلة من زوايا متباينة، تعكس مخاوفها من التحولات التي سوف ترافق إعطاء الفرصة للكتل المتوسطة والصغيرة، وتمسّ أوزانها وحصصها في الحكومة والبرلمان المقبل. والمراقب يعلم أنه قد ينحصر التنافس داخل البيت الشيعي بين تحالف الصدر والحكيم ومن يلتحق بمعيتهم من الأحزاب والكتل الجديدة والمستقلة، وبين تحالف بدر وكتل واحزاب الحشد الشعبي للفوز بنسبة 70 مقعداً فما فوق بين التحالفين الأكثر تأثيراً شيعياً، في حين قد تتضاءل حظوظ تحالف المالكي والكتل والأحزاب الأخرى.. يحاول تحالف المالكي العودة إلى صدارة المشهد السياسي مستغلاً بعضاً من المتغيرات على الساحة العراقية، ويطمح المالكي إلى أن يترأس التحالف الوطني بعد انتهاء مدة ترؤس عمار الحكيم له، وذلك بالتزامن مع الانتخابات النيابية العراقية المقبلة في عام 2018 وبدء تشكيل حكومة جديدة، كما يسعى المالكي ليكون أميناً عاماً لمجلس السياسات العليا، وهذا سيزيد بلا شك من قوته ويدعم عودته للسلطة.
يستمد المالكي قوته في الوقت الحالي من كونه يمتلك العشرات من فصائل الحشد الشعبي، بالإضافة إلى سيطرته على ما يسمى بجبهة الإصلاح البرلمانية وكونه يترأس كتلة "دولة القانون" التي تعتبر أكبر كتلة في البرلمان العراقي. ومن أجل التمهيد لعودته، يحاول المالكي بالتعاون مع جبهة الإصلاح التي تضم حوالي 100 نائب في البرلمان العراقي على إسقاط وإظهار فشل حكومة العبادي من خلال حملة استجوابات في البرلمان تسببت بإقالة الوزراء الواحد تلو الآخر، وذلك من خلال فرض رأي الأغلبية ضد مسؤولي الدولة. أمّا الأحزاب والكتل السنية فيمثّل فوزها في الانتخابات المقبلة فرصةً صعبة ومعقدة، ومهما كانت نسبتها فَلا تستطيع التفريط فيها، لعلها تحصل على 50% مما حصلت عليه في الانتخابات السابقة بسبب ظروف الحرب وتشتت جمهورها وأحزابها، ومشاكل أخرى تراكمت عليها في السنوات الماضية، وتحمّل جزء كبير من مخاطرها عدم وجود رمزية قيادية توحدها ولا توجد أيديولوجية صاهرة لها.
الجماهير السنية مهووسة في ظل الهزيمة الحضارية وتكدس أوجاع ونفايات السياسة بالمهيب الفذ وبالقائد الضرورة..الهزيمة الحضارية لأي مجتمع تقوده للبحث عن التاريخ المقدس؛ لذلك نجحت نسبياً داعش وأنصارها، وهي توزع أناشيدها الحزينة الباكية على الخلافة وهوية السنة ونساء العراق وسوريا، لمصالحها التنظيمية، حيث أوجدت عقولاً وقلوباً لاستقبال هذه الأحزان… وقد تضرّر البيت السياسي الكردي بسبب اختلاف أحزاب أربيل والسليمانية على جهة الاصطفاف بين تركيا وإيران، إلى جانب الصراع بين حزبي الطالباني ونوشيروان مصطفى. وقد دفع الاستفتاء تلك الأحزاب إلى التهدئة مع "البارزاني"، وإعادة تماسك البيت الكردي وتقوية التموضع بعيداً عن الاختلاف، وتوجيه بوصلته نحو تأكيد مشاركتهم في الاستفتاء المقبل؛ لأنّه لا يستطيع الكرد أن يختلفوا على حلم الاستقلال، نظراً لتركيبة الأحزاب الاجتماعية، وفلسفة وجودها حزبياً. تسببت إقالة البرلمان لوزير المالية هوشيار زيباري من حزب الديمقراطي الكردستاني بتعميق الخلافات بين كتلة الأكراد والتحالف الوطني الشيعي (كتلة دولة القانون والمجلس الأعلى الإسلامي)، وعلى ما يبدو أن التحالف الشيعي – الكردي الذي تأسس في عام 2007 مهدد بالانهيار.
وبرأي كتلة الأكراد فإن الكتلة الشيعية تحاول الانتقام من الرموز السياسية الكردية وإبعادها عن المشهد السياسي العراقي، مع أنه ثبت فيما بعد وجود بعض النواب من الاتحاد الوطني الكردستاني الذين صوتوا لفائدة إقالة زيباري، الأمر الذي يدل على عمق الخلافات بين حزبي بارزاني وطالباني. وفي ما يتعلق بأحزاب الأقليات والحزب الشيوعي والتيار المدني، تمثّل المرحلة المقبلة هاجساً وجودياً، وتمسّ مستقبلها وشكلها، والقوة الجماهيرية الدافعة لها؛ بحيث تتزايد احتمالات أن تقذف بهم قوانين الانتخابات المقبلة بعيداً عن التأثير السياسي والحكومي؛ حيث يعتقد أنها سوف تكون عاجزة عن أن تنافس أحزاب المكونات الكبرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.