حكايات من الريف “2”| لا خلاص من الفقر اليوم

لم يستطيعوا منع أيديهم من الارتعاش برداً وهم يحملون كؤوس الشاي، فقد لاحظ كل مَن في المقهى ذلك، ومنهم شيخ كبير؛ ذهب إليهم وسألهم من أين جئتم؟ فأجابوا: من الناظور، فقال: أترون يا أولادي تلك الغيوم السوداء؟ إنها ثلوج، إن سقطت وكنتم هنا فلا محالة ستموتون برداً!

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/09 الساعة 02:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/09 الساعة 02:35 بتوقيت غرينتش

لم ييأس "الحسين"، رغم أنه أصيب بشلل على مستوى قدمَيه في سن مبكرة بعد سقوطه من جرف صخري بجبال "تينملال" بداية "الثمانينات"، فقد كان يخرج في كل صباح، ماشياً على كرسيه المتحرك مقاوماً ضيق المعابر الجبلية وصعوبتها نزولاً إلى طريق في السفح، المكان الذي جرت العادة أن ينتظر فيه جاره صاحب سيارة الأجرة؛ كي يوصله إلى السوق الأسبوعية، ليبيع "الأكياس البلاستيكية".. هذا عمله وهكذا كانت حياته، قبل سماعه لذلك الحديث، في "الخيمة" التي يرتادها لشرب كأس شاي، فقد سمع رجلين يتحدثان عن وفرة العمل والمال في مكان قريب.

بعد أن سمع "البشرى"، أسرع ليعلم "محند" و"أحمد"، صديقيه المقربين، ويقول لهما: إن المعاناة وقساوة الحياة يمكن أن تتغير، بل حتماً ستتبدل، فقد سمعت شخصين يتحدثان عن وجود شغل مع مزارعي "الكيف" بـ"كتامة".. وهناك فرص كثيرة في "طنجة" للعمل أو للهجرة صوب أوروبا، الأرض التي يراود طيفها كل "ريفي".. أمام القهر يهون "رهن" الحياة على قوارب الموت.. وأمام الفقر "الكافر"، تصبح زراعة "الكيف" حلالاً.. وكل عمل مباحاً.

رغم إعاقته، كان "الحسين" أكثر الثلاثة تحمساً واستعداداً للتضحية من أجل تحسين وضعه المادي.. بدأ الأصدقاء الذين تشابهت ظروفهم بعد أن حرمهم "العوز" من متابعة الدراسة -بدأوا- في التخطيط، فقال "الحسين": "إن وصلنا إلى كتامة وعملنا مع فلاحيها، فسأتكفل بالأدوار التي لا تتطلب تحركاً مستمراً، وأنتم عليكم بالباقي، وإن لم يسعفنا الحظ، نكمل طريقنا صوب طنجة".. لقد كانت هذه الكلمات بمثابة اتفاق أولي لبدء "المغامرة".

لتوفير ثمن السفر، قام "محند" ببيع دراجته الهوائية، وباع "أحمد" "ماعز"، أما "الحسين" فقد كان يدخر مبلغاً من المال يكفيه للرحلة.. لم يخبر الفتيان أسرهم بقرارهم هذا، باستثناء "محند"، الذي ترك في آخر ليلة له قبل الرحيل -ترك- رسالة في جيب أخيه الصغير كتب فيها "مللنا هذا العيش.. سئمنا من الفقر والقهر.. سنذهب حيث العمل الكثير والمال الوفير.. إما كتامة أو طنجة وإما إسبانيا.. الحياة أو الموت".

في الثامنة من صباح اليوم الموعود، توجه الأصدقاء صوب الحافلة التي ستنقلهم إلى مقصدهم، والتي لن تنطلق قبل الرابعة بعد الزوال بسبب تصادف اليوم مع "السوق الأسبوعية"، ومن شدة اختلاط مشاعر الحزن والفرح لم يحس الشبان الصغار بطول الثماني ساعات التي انتظروها جلوساً على مقاعد الحافلة قبل إقلاعها.. في الطريق راودت الشبان أحلام عن تحسن أوضاعهم والتخلص من الفقر الذي نهش العظم والعقل.

بسبب التعب، لم يستيقظ الشبان إلا بعد تجاوزهم لـ"كتامة" التي خططوا للوصول إليها.. فقد نزل الأصدقاء بـ"باب برد" وسط الظلام الحالك والبرد القارس وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، توجهوا إلى جدار قرب منزل مهجور ظهر لهم بجانب الطريق، واستلقوا جنب بعضهم البعض وفرائصهم ترتعد وأسنانهم تصطك برداً، محاولين النوم.. في صباح اليوم التالي قصد الثلاثة أحد المقاهي لشرب كأس شاي ساخن يدفئ أجسادهم التي نال منها البرد الذي لم يعتادوا مثله في "إقليم الناظور".

لم يستطيعوا منع أيديهم من الارتعاش برداً وهم يحملون كؤوس الشاي، فقد لاحظ كل مَن في المقهى ذلك، ومنهم شيخ كبير؛ ذهب إليهم وسألهم من أين جئتم؟ فأجابوا: من الناظور، فقال: أترون يا أولادي تلك الغيوم السوداء؟ إنها ثلوج، إن سقطت وكنتم هنا فلا محالة ستموتون برداً!

تحطمت معنويات الفتيان بعد هذا الكلام.. لا عمل.. لا مال.. لا تحسن في الوضع ولا هرب من عوز.. كل هذا تراود إلى ذهنهم حين بدأ اليأس يختلج إلى صدورهم فليس لديهم أحد يذهبون إليه هنا، لا أمل لديهم، ضاعت كل الطموحات والأحلام.. ذهب كل شيء.. ولا خلاص من الفقر اليوم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد