تعاني الكثرة الغالبة من المشاركين في المشاريع النهضوية من عدم القدرة على تحديد بواعثها أو توضيحها وشرحها للآخرين، ويمر الفرد بعدة أطوار حتى يصل لمرحلة الإدراك الحقيقي للفكرة التي يسعى لتحقيقها، ويظل صامداً مؤمناً بها أمام الجموع المتهجمة والمعارضة له من الصحوة إلى اليقظة، مروراً بالإدراك، وتقيد المشروع، فالاستراتيجية، وإلى ما هنالك، حتى تُثبت أحقيتها ونفوذها، تماماً كالرؤية المثالية للقيادة السليمة التركية، التي تحققت خلال زمن قصير، نسبة لغيرها من الحركات النهضوية.
لا أريد الخوض فيما حققته تركيا بقيادتي داود أوغلو ورجب أردوغان، ما يهمنا هو المقارنة مع الوضع في الأقطار العربية ومشروعيتها التي استندت إليها حتى تصل إلى ما أبهرت العالم به اليوم، كيف تجاوزت حجوزاتها الاقتصادية وعرقلة العلمانية مع الإسلام، وأسقطت الديون عن عاتقها، وانتفضت مُعززة وتنموية، كيف عادت مستقلة عثمانية بعد أن رهنها أتاتورك للإمبريالية؟!
في حين أن بعض الأقطار العربية تشهد في ساحتها اليوم حروب، سواء على الصعد الداخلية من انقلابات عسكرية وثورات على الأنظمة الحاكمة، أو أخرى تواجه احتلال وانتهاكات في مقدساتها ومحارمها.
عن استراتيجية "صفر مشكلات"، التي اتبعتها تركيا وأعلن عنها حزب التنمية والعدالة عام 2011؛ لتكون النقطة الأولى في مواجهتها للمشكلات الخارجية بداية مع روسيا، وانخراطها في الحروب والصراعات العربية في دول الجوار، كيف للعالم العربي الإسلامي أن ينسى جمال الماضي وإمكانية الفعل في الحاضر والمستقبل، ويصير لقمة يستسيغها المستعمرون، في الوقت التي عملت فيه تركيا على ربط الحضارة العثمانية وإحياء أسسها وتشريعاتها، وإعادة التشريع الإسلامي للنظم والمجتمع، بعد محاربته ونشر العلمانية وصقل العقول والدساتير من أسس الأخيرة على مدى سنوات عدة.
تواجه اليوم سوريا ثورة وانقلابات في آن واحد، هذه الثورة التي خرجت تبعاً لعدة أسباب صَعُبَ في توضيحها القائمون عليها، ضمن إطار الصحوة؛ لتتطور تدريجياً وتسنح المعطيات والتحولات التي واجهتها، البواعث الحقيقية خلفها، لكن هذه الفترة الصحوة أخذت حيزاً وتراخت كثيراً عن تجاوزها الطور الأول، والذي يحمل الكثير من التخبطات والتقلبات لغلبة البادين بمشاعرهم على أعمالهم، وتعرضهم في الغالب للشبهات، وفئة القرّاء المتخصصين بالنقد دون العمل، وهذا السبب الرئيسي لحال الصراع المستمر بين الفصائل المعارضة والمسلحة اليوم، بداية من الصحوة التي تمثلت في التمرد على الظلم والطغيان النظام الحاكم والتنديد به، إلى تسلل أجندة خارجية لعرقلة البواعث الحقيقة لهذه الثورة، من داعش إلى النصرة، تحت أشرعة إسلامية وتذرعهم بالسعي لإقامة مشروع إسلامي نهضوي، في حين أنهم لا يشتغلون ضمن تشريع الإسلام وقوانينه، لكنهم يستخدمونه لجذب أكبر عدد ممكن من تأييد للجماهير لإسقاط العلمانية وأنظمتها المستبدة، كما وتسعى الفصائل القمعية لروح الثورة الحقيقة للقضاء على عقول الصفوة المختارة للقيام بالمشروع النهضوي.
وبعد أن اتضحت مفاهيم الفئات المحاربة لفكرة التطور الحضاري هنا في سوريا، والسعي لإخماد شُعل الثورة، وتحييد فكر أبنائها، نقول إن الصحوة بدأت من هنا بالتحديد، حينما أدركنا تماماً وجود تبعيات للفساد، وكانت الصحوة من البداية منبعثة من أرواح منفعلة غير مهيأة لوضع تشريع حكيم يقود الوطن لخطى جديدة، وتحريره من كبوته.
التقلبات والتظاهرات اليوم تعود بذاكرة الثورة السورية لأولى لحظاتها، أمّا عن مطالبها اليوم، تنادي بوحدة الصف ووقف القتال، نتاج انقطاع الأمل بالقادة الذين تسلموا مشاعل هذه الثورة التي سنحت لجميع المتفرجين بالتدخل، والتأثير على مبادئها وأفكارها، فكيف عن الجيل الصاعد وما سيؤول إليه، هل سيكون هو الفئة العالمة قبل العمل، والعاملة بما تعلمه، لن تكون متفرجة ناقدة عُرضة للشبهات؟ هل ستؤول إلى طور اليقظة أم أنها ستظل في سباتها بين السقوط والصحوة؟
حروب مستمرة ودماء تُراق، متناسية تماماً انبعاثها الأصل، لماذا لم تساعد تركيا هذه الثورة بهديها لسبل النجاح وعونها في تخطي الصعاب والوصل لما تسعى إليه؟ لأنها ببساطة اختارت أن تشارك في التوسعة الجغرافية واستغلال العقول النيّرة والفئات العاملة لتعزز وجودها ونفوذها، كيف يتحول شعار صفر مشكلات عملياً لغزو وصراع على مستوى عالمي وداخلي في آن واحد؟
وتركيا في أنظار العرب شقيقة وليست مستعمر كأميركا وروسيا وإسرائيل، لكن كلّ يرغب لنفسه.
هذه الخطوة التي أقدم عليها مشاعل التغير والبحث عن العدالة والتنمية، لم تكن خاطئة بل في قمة الرُشد، إلّا أنّ القادة العرب لم يبحثوا عن الماديات متجاهلين الروحانيات، متناسين أصول الحضارة جُلّ همهم كيف يُحييون الرخاء، بين القوقاز والعرب أشواط وأميال.
يبقى السؤال لماذا لم نستطِع التمسك والإيمان بعقائدنا ومبادئنا الكريمة التي تحمل في طيّاتها أرقى وأسمى التشريعات والأسس الحياتية والعلمية والعملية؟
اليوم فقط في ظل هذه الانقلابات والتظاهرات المتجددة والتحولات، ظهر بعض من رواد الثورة يقول ويدعو الله علناً: "اللهم انصر الحقّ إن كان ثائراً أو مؤيداً، فقط نريد حقن هذه الدماء، يا الله"، ماتت الثورة لكن الفكرة لم تمت بعد، قد يستسلم أبناء اليوم، لكنّ جيل الغد لا زال يتلّقن، وإن عجزنا عن إتمام مسيرة النهضة فهناك من سيكملها ولن تقف عندنا، ما أن تصحو الأمم لن يعيدها سيرتها إلا وصولها الحضارة التي نامت عنها، وما هذه الحروب والفوضى بأمرٍ غريب، كل الأمم التي ارتقت وتحضرّت، خرجت من غدق الدماء والأشلاء، من ستالين غراد وروسيا الأسطورة، إلى الفاتيكان والكنيسة وجورها وأميركا الحاكم الأول للعالم، وكذلك ستصير سورياً يوماً، فقط عندما تصير هي غاية الشعب واحدة وليست مجرد وطن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.