رقم 2 – زنقة غزة – حي القدس “2”

من ثوابت العربي والمسلم الذي ينتقل للعيش في سياق حضاري واجتماعي مختلف، وخاصة الغربي منه، والتي تتعرض لأصعب الامتحانات حيث يضطر لإعادة اكتشافها تحت مجهر أسئلة ومساءلة المجتمع والناس له، هي القناعات الدينية والموقف من القضية الفلسطينية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/29 الساعة 03:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/29 الساعة 03:45 بتوقيت غرينتش

من ثوابت العربي والمسلم الذي ينتقل للعيش في سياق حضاري واجتماعي مختلف، وخاصة الغربي منه، والتي تتعرض لأصعب الامتحانات حيث يضطر لإعادة اكتشافها تحت مجهر أسئلة ومساءلة المجتمع والناس له، هي القناعات الدينية والموقف من القضية الفلسطينية.

صادف اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية أو انتفاضة الأقصى، ثاني سنواتي في بروكسل. طبيعة التخصص (التواصل والتفاوض) الذي كان يربطنا بالحياة والأحداث تحليلاً وتحييناً فرض حضور أحداث المشرق العربي في الدروس والمحاضرات، وأيضاً لوجود مجموعة من الطلبة المغاربيين.

كانت لديَّ علاقة رائعة مع الأساتذة ومع زملائي في الدراسة، بعضهم حمَّلني مسؤولية تمثيل العالم العربي الإسلامي رغماً عني وهو يقول "ليس بمزاجك"، فقضية الحجاب ووضعية المرأة العربية والمسلمة والإصلاح الديني كانت من أبسط التمارين شبه اليومية في حصة سؤال جواب التي كنت أخضع لها باستمرار، سواء في الدراسة أو العمل أو حتى السكن؛ حيث عشت أولى سنواتي في دار للطالبات كان يصل عدد الجنسيات فيها إلى الخمس وثلاثين جنسية، من أستراليا إلى أميركا، مروراً بأوروبا وإفريقيا.

كنا في بداية إقامتي فيها مغربيتان فقط وظللت حتى غادرتها المحجبة الوحيدة، كانت معظم قاطناتها عابرات، إما من أجل تدريباتهن في المؤسسات الأوروبية أو الحلف الأطلسي أو في إطار شراكات بحثية بين جامعاتهن في بلدانهن وجامعة بروكسل الحرة، مهام لا تتجاوز بضعة أشهر؛ لذلك فإن حركية دائمة كانت تميز جو الصالونات المشتركة التي كانت تجمعنا سواء للقراءة أو مشاهدة التلفزيون أو حتى في المطبخ الكبير المفتوح وقاعتي الأكل الأكبر منه في جو يدعو للسمر والمحادثات.

هذه التجربة صقلت اجتماعيتي وطورت مهاراتي التواصلية وعلمتني أن أخبر شفرات غيري الذهنية والثقافية.

من بين أساتذتي المميزين كان السيد دو وينتر الذي درسني تاريخ الصحافة في السنة الأولى وتاريخ الفكر الاقتصادي في السنة الثانية. كان أستاذاً للتاريخ في جامعة بروكسل الحرة في نفس الوقت، بحث في رسالته للدكتوراه العنصرية في أفلام الويسترن الأميركية وقضى عطله الصيفية الطويلة في أثر قبائل المايا، أول من قربني من مخطوطات المايا .Les codex Mayas: مناقشة واحدة معه في بداية الموسم الدراسي حول مشروع المؤرخ الفرنسي مارك فيرو ونموذجه التاريخ الموازي، جعلته يفتح لي بيته ومكتبته الخرافية (التي كان قد تبرع بها للجامعة؛ حيث قال حين رأى دهشتي واستسلامي أمامها: لو كنت أعلم أنني سأقابل يوماً شخصاً مثلك لما تسرعت وتبرعت بها للجامعة) كان يبادلني بعض المراجع التاريخية المهمة… علاقتي بأساتذتي وزملائي في الدراسة والعمل على السواء من أكثر العوامل التي ساهمت في بناء علاقتي الجميلة مع بروكسل.

طبعاً كانت نقاشاتنا في تلك السنة حول انتفاضة الأقصى تصل حد الجدال وكنت وبعض زملائي نضطر مرات لإعادة شرح التاريخ وآرائنا في اليهودية ومواقفنا من الصهيونية والاستعمار.. حتى كان بعض زملائنا وأساتذنا يستنفدون مخزونهم من مساحات النقاش وسعة صدر الحوار مرات؛ ليفاجئني أستاذي المؤرخ يوماً وأنا في معرض الشرح والتوضيح والدفاع ببعض الحدة في اللهجة والصوت: "نعيمة، ما أعلمه عنك أنك مغربية الجنسية ولست فلسطينية!". طبيعتي الحساسة لا تتحمل القمع (حتى وإن كان أوروبياً لائقاً لا يضمر أي إساءة).

أخذت حقيبة يدي، أخرجت منها بطاقتي الوطنية المغربية التي كانت ما زالت تحمل أول عنوان يكتب على كل أوراقي الرسمية ويراسلني عليه كل أصدقائي المغاربة والأجانب ومعالم شخصيتي الاجتماعية تكتمل: "رقم 2 – زنقة غزة – حي القدس". تقدمت إليه وأنا أحملها بكل فخر، قدمتها له وطلبت منه أن يقرأ عنواني على بطاقتي الوطنية بصوت مرتفع حتى يفهم زملائي في الفصل. فعل، ابتسمت ابتسامة ليست بريئة تماماً وقلت: نعم سيدي العزيز، بدوري ترعرعت في الأراضي المحتلة!
وجدتها فرصة سانحة وأضفت: هو تمثل الأمة على المستوى الوجداني الذي نعيشه جميعاً والذي لا أظنني قد نجحت قبل هذه اللحظة في تقريبكم منه.

طبعا لم تظل الحادثة حبيسة الفصل وجعلت مني في أعين الجميع "عارفة بالشأن العربي".
حتى لو قسمت الخارجية الأميركية مؤخراً عالمنا العربي في إدراكها الجيوستراتيجي من منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى منطقة مصر والمغرب العربي من جهة ومنطقة الشرق الأوسط من الأخرى، فإن وجدان المغاربة الديني الذي صقلته قصص الأجداد كتابة وحكاية عن رحلات الحج ما زال لا يدرك اكتمال حجه إلى الكعبة إلا عبر زيارة للمسجد الأقصى سواء في رحلة الذهاب أو الإياب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد