تأسيساً على سلسلةٍ من الانتكاسات في التفاهمات الروسية – الأميركية، بدءاً من التفاهم المشترك على وقف الأعمال القتالية في (22/2/2016) وصدور القرار (2268) عن مجلس الأمن، وصولاً إلى تراجع واشنطن عن تفاهمات (15/7/2016) وفشلها في مبادرة لوزان (15/10/2016)، كان القرار الروسيّ في إيجاد مساراتٍ أخرى بديلةً عن التفاهم مع واشنطن حول التسوية في سوريا.
وعلى هذا الأساس جاء الاجتماع الثلاثي في موسكو (20/12/2016) ليؤسس لاحقاً إلى ما عرف بسياق أستانا للحل في سوريا ضمن رؤيةٍ روسيةٍ عبّر عنها إعلان موسكو (باعتباره الإطار الثلاثي لروسيا وتركيا وإيران الأكثر فاعلية بشأن سوريا).
ورغم ثغرات هذا السياق وفقدانه قدرة الضبط الكليّ لفواعل الأزمة ومصادر تأزيمها، فإنّه نجح في فرض رؤية موسكو للحل في سوريا، ولكنّ النتيجة الأهم التي حققها هذا السياق هي جرّ واشنطن مجدداً إلى دائرة التفاهم مع روسيا، وإلّا فبحساب التسويات النهائية فحصة واشنطن أضحت من نصيب تركيا من التسويات، أمرٌ عجّل في إعادة بناء عجلات التفاهم الأميركيّ الروسيّ في ظلّ براغماتية أميركية في التعاطي مع الأزمة السورية آثرت ضمان النتائج على حسابات صورة أميركا الجديدة في العالم دون تعميم هذا النموذج أميركياً على باقي الملفات المشتركة مع روسيا تأزيماً،
ضمن رؤية أميركية جديدها الدخول المباشر على خط الأزمة السورية وتحجيم دور أدواتها الذي أضّر بمصالح واشنطن عموماً جراء التضارب بين مصالح أدواتها، وخير مثال على ذلك تفاهمات روسيا وتركيا في أحد جوانبها، ورغبة قطر في تعميق علاقتها بطهران كنموذجٍ آخر، وضمن ذات الرؤية تدرك واشنطن أنّ موسكو لن تدخل في حرب استنزاف طويلة الأمد في سوريا حتى لو اضطرت إلى زيادة فاعليتها الميدانية، وهو ما يعني بالناتج الإجمالي أنّ الأزمة انحسرت، وأنّ واشنطن خاسرةٌ ببقائها قوةً دافعةً ومحركة لأدواتها فقط لا فاعلةً في تحريك مجريات الأزمة.
من هنا ارتكزت الرؤية الأميركية "الترامبية" في التعاطي مع الملف السوريّ على قاعدتين: القاعدة الأولى التدحرج المحسوب شكلاً ومضموناً بعيداً عن مواجهةٍ واسعةٍ في سوريا، والقاعدة الثانية تكريّس نتائج هذا التدحرج في تفاهماتٍ مباشرةٍ مع روسيا في سوريا، وهو ما بدا جليّاً في تفاهمات دائرة التنف ولاحقاً اتفاق جنوب غرب سوريا (7/7/2017)، وهو ما يعني أنّ إدارة الرئيس ترامب أصبحت فاعلاً مباشراً في مجريات الحدث السوري، واستناداً إلى ذات القاعدة التي أسست عليها روسيا سياق أستانا أيّ الأطر الأكثر فاعليةً في الأزمة وبالتالي الأصلح للحل،
أصبح سياق أستانا بحاجةٍ ماسةٍ لاستمراره إلى تشميل الولايات المتحدة ضمن إطاره الثلاثي ليغدو رباعياً وهو أمر مستحيل الحدوث؛ نظراً لاستحالة الجمع بين طهران وواشنطن بذات الصفة في الأزمة السورية.. ضمن حساباتٍ أكثر تعقيداً إذا وسعنا دائرتها الإقليمية، ورغبة واشنطن في نزع صفة "ضامن" عن الدور الإيرانيّ وتحويله إلى عقبةٍ في طريق "السلام" في سوريا.
لذلك انقسم سياق أستانا إلى إطارين؛ الإطار الأول هو ترويكا إعلان موسكو، أي روسيا تركيا وإيران، والإطار الثاني هو ثنائية هامبورغ الروسية – الأميركية فيما سمح للأردن بهامش مناورةٍ في الإطارين.
وبالتالي تمت تجزئة مجال العمل الجغرافي لتفاهمات كلّ من السياقين بعد أن كان مقرراً أن يكون سياق أستانا شاملاً لكلّ الجغرافية السورية -استثناء مناطق عمل ميليشيات قوات سوريا الديموقراطية- أما الآن ومع إطار عمل (هامبورج/عمان) أضحى سياق أستانا بإطار الترويكا محصوراً بمناطق الشمال والوسط ومحيط العاصمة، وسياق هامبورج/ عمان معنيّ بالمنطقة الجنوبية.
ولكنّ الأمر لم يقتصر على هذا الحد، فمحاولات واشنطن توسيع نطاق عمل تفاهماتها مع روسيا لتشمل وسط سوريا وريف العاصمة مطلع سبتمبر/أيلول المقبل وما يسبقه من احتمالٍ لوقف إطلاق النار منتصف أغسطس/آب القادم في تلك المناطق يعني أنّ سياق أستانا للحل العسكري قد تقلّص إلى حدود الجبهة الشمالية (غرب الفرات) وهذا بحدّ ذاته نسفٌ لأسس إعلان موسكو،
وبالتالي جولة أستانا السادسة نهاية أغسطس/آب قد تشهد انحساراً في الزخم وصوغاً جديداً لإعلان موسكو، بشرط نجاح التفاهم الأميركي – الروسي الجديد في التوسع لتشمل نطاق تفاهماته الغوطة الشرقية وأرياف حمص الشمالية والشمالية الشرقية، نجاحٌ إذا لم يراعِ المصالح الإقليمية المتضاربة من شأنه خلق قوى تنافر قد تعيق سياق جنيف للحل السياسيّ في سوريا؛ لأنّ نجاح التسويات الأميركية – الروسية سيزيد مخاوف أطراف متحاربة في سورية كتركيا وإيران وقطر، التي تبدو علاقتها جيدة حالياً بتأثير المواجهة مع ذات المحور الخليجي – المصري الذي يحاول الهيمنة على إقليم الشرق الأوسط.
لذلك ستغدو مهمة التوفيق بين المصالح الإقليمية والدولية على كاهل روسيا أمراً معقداً وصعباً وشاقاً ويجعل من تسوية شاملة أمراً ليس بقريب، مع احتدام الاستقطاب الأميركي – الإيراني، الذي سيشعله محاولات واشنطن استغلال اتفاق جنوب غرب سوريا لنقل فصائل "ميليشيات" عسكرية إلى منطقة شمال دير الزور استعداداً لفتح معركة الشدادي والبوكمال، الأمر الذي يجعل التواصل البري بين طهران دمشق بيروت في مرمى النار الأميركي، سواء في دير الزور أو التنف، وهو أمرٌ يرفضه المحور برمته..
وبدوره تغيير منظومة وقواعد السياق العسكري للحل سيتبعه حكماً تغيير في القوى الدافعة لمنظومة الحل السياسي في جنيف، فلم يعد جنيف ميدانياً للصرف السياسي لتفاهمات أستانا، بقدر ما أصبح ميداناً للصرف السياسي للتفاهم الأميركي – الروسي، وهو ما بدأ يتبلور بصيغٍ جديدةٍ كإعادة تفعيل عمل مجموعة الدعم حول سوريا (SSIG) التي من الممكن أن تحل مكانها مبادرة الرئيس الفرنسي ماكرون لمجموعة الاتصال حول الوضع في سوريا ما بعد الصراع، وبالتالي جنيف (8) قد يحمل روحاً جديدة إذا أحسن دي ميستورا ضبط عقارب ساعاته جيداً واختار لحظاتٍ سياسية مناسبة ودولية إيجابية.
وإذا ثبتنا فرضية الصرف السياسيّ للتفاهم الأميركيّ – الروسيّ على حساب سياق أستانا بإطار الترويكا فمن المحتمل خلق قوى تنافر قد تعرقل سياق الحل السياسيّ تتجسد في الأطماع التركية، التي قد تتعمد خلق محور داخل الإقليم لعرقلة تفاهمات روسيا والولايات المتحدة؛ لأنها ستفضي إلى جعل إيران والسعودية قطبَي الرحى في السياسة الإقليمية.. وهو ما يرفضه نظام أردوغان الباحث عن إمبراطوريته الخاصة منافساً محمد بن سلمان على إمبراطوريته التي يسعى لتشكيلها.
ختاماً.. تجزئة الحل ضمن مساراتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ منفصلة ومجزئّة، على أكثر من حيزٍ جغرافيّ سلاحٌ ذو حدين، فقد يكون إيجابياً لأنّه يراعي المصالح المتضاربة، وهو شرطٌ لا بدّ منه لإيقاف ذر الوقود على النار كشرطٍ لإنجاح المسار السياسي وفق رؤية القرار (2254)، ولكن الحدّ الثاني قد يحمل في طياته إطالة، وقد يكون تكريس أمد الوجود الأجنبيّ غير الشرعيّ على الأرض السورية بذرائع تلك الاتفاقات، وهو أمرٌ ملّحٌ طرحه على طاولة التفاوض الإقليمي والدولي، وهو برسم الضامن الروسي الذي بدأ بسياق أستانا، والآن بدأ بشق مسار جديد مع الولايات المتحدة.. دون أن ننسى أنّ أمد التفاهمات الروسية مع الولايات المتحدة في سوريا قصيرٌ بفعل السياسات الأميركية وتجربة اتفاق (15/7/2016) لا تزال في الأذهان، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات والهواجس حال تكرر سيناريو ذاك الاتفاق في التسويات الراهنة؛
لتبقى الأعين شاخصةً إلى سبتمبر/أيلول القادم وما تحمله على صعيد التسويات في السياقين العسكري والسياسي، فثلاث جولات من المفاوضات قادمة (أستانا 6، وجنيف 8، وجولة ثانية من تفاهمات هامبورغ/عمان)، فهل يكون أيلول أبيض على السوريين، وهو ما نتمناه أم أنّ تاريخ العرب مع سبتمبر/أيلول سيبقى أسود سياسياً؛ نظراً للمآسي التي مرّت على العرب في هذا الشهر تاريخياً، وخصوصاً أنّ المشهد العراقي في سبتمبر/أيلول المقبل قادمٌ على احتمال إجراء استفتاءٍ لانفصال كردستان العراق (25/9/2017)، أمرٌ إن حدث سيعقد المشهد كثيراً في سوريا؛ لأنّ ردّة الفعل التركية قد تكون غير منضبطة كأن تشنّ عدواناً برياً على سوريا في عفرين أو تل رفعت، تحت ذريعة مواجهة "المشروع الكردي"، الأمر الذي قد يجهض نهائياً سياق أستانا بإطاره الثلاثي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.