أطفال الحروب أجنّة زهرة البروتيوس

جتمعاتنا العرّبية بطبيعتها قليلة الاهتمام بالمشاكل النفسية، وفي دراسة آثارها وخطرها المستقبلي، وتأمين الرعاية اللازمة لمساعدة الأطفال على تجاوز أزماتهم

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/18 الساعة 05:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/18 الساعة 05:41 بتوقيت غرينتش

تخلّف النزاعات الدائرة في الأراضي العربية مع كل حصار يفرض على سكان مدينة جديدة أو خروجهم من أخرى مئات الآلاف من الأطفال منهم بأجساد سليمة، والبعض بأجساد مشوهة، لكن جميع من خرج منهم لم ينجوا من التشوّه النّفسي و يركن هؤلاء الأطفال إلى منازلهم الجديدة في الخيام، وأصوات القنابل وصواريخ الطائرات والقذائف ما زالت تتساقط على مخيلتهم، تعكّر صفو حياتهم وتنتزع الفرح من قلوبهم البريئة؛ حيث بات معظمهم يعاني من الخوف الدائم وكوابيس الفزع من أشلاء أصدقائهم وعوائلهم التي تلاحقهم في أحلامهم.

والآلاف منهم أصيبوا بصدمات نفسيّة عنيفة نتيجة ما شهدوه، فكم تشبه مدنهم المحاصرة زهرة البروتيوس التي تنكمش على نفسها؛ لتحتضن أجنتها داخل حجرة أشبه بالتابوت الخشبي لا يفرج عنهم إلا عند احتراق هذه الزهرة بالكامل، لتكون النار المرحلة الأولى في دورة حياتهم، ويكون الرماد مهدهم الأول، وتكون الريح أمهم الجديدة، فتنثرهم في أصقاع الأرض، فما أشبهه أجنة هذه الزهرة بأطفال العرب المنتشرين في مخيمات اللجوء يعيشون التشرد واليتم والمرض، وسوء التغذية من العراق إلى سوريا، مروراً باليمن، وصولاً إلى ليبيا، وكيف ستكون نتائج ما عايشوه من روعات الحروب على مستقبلهم، وفي حين يتحدث العالم عن إيواء المهجرين ربما يحتاج هؤلاء الأطفال إلى الرّعاية والـتأهيل النفسي أكثر من احتياجهم لخيمة تؤويهم، فالكثير منهم باتوا يعانون من نوبات من الفزع المتكرّر ليلاً، إضافة إلى خوفهم من الخلود إلى النوم ومرض التبول اللاإرادي.

لكن مجتمعاتنا العرّبية بطبيعتها قليلة الاهتمام بالمشاكل النفسية، وفي دراسة آثارها وخطرها المستقبلي، وتأمين الرعاية اللازمة لمساعدة الأطفال على تجاوز أزماتهم، ولن نكون قادرين على معالجة هذه القضيّة إلّا إذا أدركنا إدراكاً تاماً أننا سنكون أمام جيل جديد من الشباب المعتل نفسياً في السنوات القليلة القادمة، لكننا عندما نستمع لحديث مسؤولي المنظمات وجمعيّات الإغاثة العربيّة عن الدّعم والرّعاية المقدّمة للأطفال المهجّرين نجد أنّ المشكلة الوحيدة التي تشغلهم هي الإيواء وتأمين الدعم المادي، في حين لا أحد منهم يتحدث عن الدّعم المعنوي والنّفسي، وإذا تم التطرق للموضوع فيكون بشكل ثانوي عابر من دون توجيه الاهتمام اللازم لمعالجة هذه القضية رغم أهميتها، والتي يمكن أن تنتج آثاراً كارثية مستقبلاً، وقد ذكر تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاص بحقوق الإنسان "أن الأطفال الذين يكونون ضمن دوّامة الأحداث الدموّية تبقى ذكريات الأحداث معهم، وتسبب لهم كوابيس شديدة، وتتداخل مع مجريات حياتهم اليومية وكأنها تحدث الآن، كما أنها تسبب لهم الخوف وانعدام الأمن والمرارة".

وقد شهدنا في العام المنصرم حصار مدينتي حلب والموصل وهما من أكبر وأعرق المدن العربية، واللتان شهدتا معارك وقصفاِ أقسى مما تعرضت له مدينة برلين في الحرب العالميّة الثانية على أيدي الحلفاء، فلأشهر طويلة كانت الغارات الجويّة تتعدى المائة غارة في اليوم، عدا القصف المدفعي الذي لم يهدأ ليلاً ولا نهاراً إلى أن تمت تسوية حضارة المدينتين بالأرض، وانتشرت جثث وأشلاء أهلها في الطرقات، والكثير من الشهود تحدثوا عن جرحى تم تركهم يصرخون في الطرقات؛ لعدم القدرة على إسعافهم، كل هذه المشاهد الدمويّة ظلّ الأطفال شاهدين عليها إلى أن تم تهجير من نجا بجسده أو بنصف جسد منهم مع ذويه بعد أن عاشوا حياة أشبه بحياة القبور، وعششت رائحة الموت في عقولهم الصغيرة، ولكن مشوار التهجير لم ولن ينتهي بهم؛ حيث استقروا فجميعهم ارتحلوا إلى مناطق غير آمنة تشهد نزاعات جديدة، فغدا الموت والخوف والرعب رفيقهم في خيامهم ومنامهم، فإلى متى سيبقى الطفل العربي الخاسر الأكبر من هذا الاقتتال؟ وإلى متى سيبقى خائفاً مذعوراً هارباً حتى من أحلامه؟

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد