الخامس من يوليو/تموز ذكرى أليمة، فهي الذكرى التاسعة على استشهاد الصديق المهندس نزار رستناوي في معتقل صيدنايا العسكري بدمشق، وهي ذكرى مقتل العشرات من السجناء عبر القناصة، وذكرى مقتل عشرات العسكريين بيد سجناء أهينت كراماتهم طوال سنين، عسكريين أغرار لا ناقة لهم ولا جمل دفعوا دفعاً إلى حتفهم من قِبل مدير السجن ومديره التنفيذي الأول المساعد أبو وائل، وبعضهم لم يمضِ على سحبه إلى الخدمة الشهران، ولم ينبت شعر أربد كما برصاص الفرقة التي حاصرت السجن، فلم تميز بين معتقل وعسكري حفظ النظام.
هنا بعض وقائع مقتل الرجل النبيل والصديق الأخ ذي الفكر المتنور والموقف الصلب.
قتل نزار رستناوي؛ لأنه كان يلعب دوراً في غاية الأهمية في سجن صيدنايا، وهو باعتباره عضواً في قيادة منظمة حقوقية سورية كان معنياً بمتابعة أوضاع السجناء داخل السجن بمن فيهم السجناء الإسلاميون، بغضّ النظر عن رأيه بعقائدهم وخلافه معهم بشكل مستمر.
وهو من منطلق أخلاقي وإنساني وحقوقي حاول المستحيل لتطوير وتحسين أوضاعهم الإنسانية والصحية، من أجل ذلك بنى علاقات مصلحيَّة مع عدد من حرس السجن، وبعض عناصر الإدارة، بتقديم المال أو هدايا بسيطة لهم، من أجل الحصول على بعض الأدوات الضرورية لاستخدام السجناء صحياً وإنسانياً، وفوق هذا كان يطالب بمقابلة مدير السجن من أجل نقل أوضاع السجناء السيئة له، محاولاً الضغط على المدير لتحسينها، عبر إنذاره أن السجن سوف ينفجر في وجه العقيد، وأن أوضاع السجناء لا تُحتمل، وأنه لا بُدَّ من التعامل مع السجناء الإسلاميين، وهم غالبية السجناء، بشكل إنساني، ومحاولة محاورتهم أو تثقيفهم؛ لهذا الأمر كان نزار محترماً من السجناء بمن فيهم بعض الإسلاميين المعتدلين، وهو بالتأكيد كان محبوباً فوق أنَّه مُحترم من السجناء العلمانيين الديمقراطيين الأكراد والجنائيين؛ لهذا كانوا يلقبونه بـ" الخال"؛ نظراً لموقعه الكبير بالنسبة لهم.
فنزار كان بمثابة الأب، ولقد دفع حياته ثمناً لأبوته..
ولنبدأ قصة مقتله من بدايتها:
يوم 27 مارس/آذار 2008 بعد ساعات من بداية التمرّد الأول في سجن صيدنايا العسكري، طلبت لجنة -قيل إنها مكوَّنة من ضباط جاءوا من القصر الجمهوري والجيش- مجموعة من السجناء لمفاوضتهم ومعرفة أسباب التمرّد، اختار السجناء الإسلاميون سبعة أشخاص، بطبيعة الحال لم يكن بينهم أي سجين غير إسلامي، فطلبنا من نزار رستناوي أن يكون جزءاً من المفاوضين؛ كي نعرف ما الذي يجري، وإلى أين يذهب السجن، بعد إلحاح بعض الأصدقاء عليه، قبل نزار بالالتحاق بالمفاوضين، أتذكَّرُهُ الآن وهو ينزل درجات السلم الحلزوني من الطابق الثالث هبوطاً إلى الطابق الأول، توقف وسط الدرج، ونظر إلى الأعلى أشار له أحدهم أن انزل، ربما كان نزار متردداً؟ أم شعر أنه يجتاز الخطوات الأولى نحو حتفه؟ وحده الله يعلم.
بعد أن عاد من لقاء اللجنة العسكرية والأمنية التي استمعتْ له ولبقية لجنة السجناء الإسلاميين، قال نزار إنه فضح مدير السجن العقيد علي خير بك، لدرجة أن أحد ضباط اللجنة طرد علي خير بك خارج غرفته، حينما حاول مقاطعة كلام نزار أكثر من مرة.
شرح نزار للجنة العسكرية وبحضور لجنة السجناء الإسلاميين، أن السبب في الاستعصاء هي الضغوط التي مارسها مدير السجن علي خير بك، ومحاولته إذلال السجناء الإسلاميين، فلا طعام يصلح للبشر، ولا زيارات لغير المحكومين.. إلخ.
وهذا ما فاجأ مدير السجن العقيد علي خير بك، الذي اعتقد أن نزار سيكون أقلّ المنتقدين له، لكن نزار كان أشد المنتقدين، فهو أخبر اللجنة العسكرية الأمنية، إنه كان قد حذّر مدير السجن أكثر من مرة من الانفجار بسبب ضغوطه وممارساته السيئة تجاه المعتقلين، لكنه أي مدير السجن لم يتراجع عن ممارساته.
فشل علي خير بك بمرافعته أمام اللجنة العسكرية بتحميل السجناء الإسلاميين مسؤولية الاستعصاء الأول في صيدنايا، بسبب اتفاق كل السجناء الذين استمعت إليهم اللجنة العسكرية على أن السبب الأول للاستعصاء هي ممارسات وضغوط علي خير بك عليهم.
من هذه الحادثة بالضبط، أي تعرية نزار للعقيد خير بك أمام اللجنة العسكرية يمكن أن ندرك السبب الحقيقي لمقتله، لقد أخذ العقيد علي خير بك قراراً لا رجعة عنه في ذلك اليوم، بالانتقام من نزار رستناوي؛ لأنه مرّغ وجههُ بالوحل أمام اللجنة العسكرية الأمنية الآتية من القصر الجمهوري، وأظهره بمظهر المسؤول الوحيد عن استعصاء سجن صيدنايا العسكري الأول، وهو استعصاء لم يحدث في تاريخ السجن أو أي سجن آخر في سوريا على ما نعلم، مع ذلك وبدلاً من تسريح علي خير بك أو نقله إلى مكان آخر بعيداً عن سجن صيدنايا، بقي الأخير في مكانه، ربما لقرابته من الأسرة الحاكمة، وربّما لمنحه فرصة يصحح بها ما ارتكبه في عهده الأول المنتهي في يوم الاستعصاء الأول.
الفترة الثانية لحكم علي خير بك بعد 27 مارس/آذار 2008 تحققت فيها معظم مطالب السجناء، حيث تحسن الطعام، وعرض المرضى على لجان طبية، وخرج عدد منهم بعفو طبي، وفتحت الزيارات للجميع، وصار بإمكان الواحد منا أن يقرأ بعض الكتب، وبدأت سلسلة من المحاضرات الدينية حاضر بها ابن رمضان البوطي، وعلي الشعيبي، وسواهم، وقيل إن نزار رستناوي هو من أقنع مدير السجن أو اللجنة العسكرية بهذه الخطوة الأخيرة، لكن هذه الفترة كان سمتها الفوضى أيضاً، فلقد بدأ المتطرفون الإسلاميون يحتاطون أو يستعدون لمعركة جديدة، خوفاً من اقتحام السجن من قِبل النظام أو بسبب أخذهم ضوءاً أخضر من علي خير بك مدير السجن، أو من جهة ما لتحويل السجن إلى مكان للتدريب على القتال، فتحولت بعض الأسرّة وأجزاء من الأبواب الحديدية إلى سيوف وخناجر، كان علي خير بك يعلم بالوضع الجديد، فترك مجالاً أكثر للسجناء الإسلاميين الذين راح بعضهم ينتقل بين جناح وآخر، دون ممانعة من أحد من الضباط أو من علي خير بك، كانت أيام الحرية داخل صيدنايا، لكنها كانت أيضاً فرصة علي خير بك لينتقم من سجناء صيدنايا ومن نزار رستناوي بالدرجة الأولى.
مدير السجن يبثّ الفرقة بين السجناء: اتّبع علي خير بك سياسة التفرقة بين السجناء، كما فعل سلفه لؤي يوسف؛ حيث كان يذهب إلى أجنحة الإسلاميين، ويحرضهم على السجناء الجنائيين والديمقراطيين الذين وصفهم بالعملاء لأميركا والخونة، ويذهب إلى أجنحة الجنائيين والديمقراطيين ويخيفهم من الإسلاميين بالقول أنتم بالنسبة للإسلاميين كفار وسوف يذبحونكم، وكان هو المسؤول عن الفوضى التي وصل إليها سجن صيدنايا، بل كان يشرف عليها، وفي نفس الوقت يكتب تقارير يومية إلى قيادته، يقول فيها إن أوضاع السجن أصبحت سيئة، وإن الإسلاميين يصنعون أسلحة ويتدربون ويعطون دروساً في التكفير.. استمرت تقارير علي خير بك إلى القيادة حتى اقتنعت بكلامه، فطلبت منه إعادة الأوضاع في سجن صيدنايا إلى حالتها الأولى قبل الاستعصاء الأول، أي بضبط السجن، وهذا ما كان يريد علي خير بك الحصول عليه، لسببين: الأول: كي تتأكد القيادة أنه كان مصيباً في طريقة تعامله مع الإسلاميين، وأن الإسلاميين لا يمنحون حرية، بل لا بد من التعامل معهم بقسوة، وبالتالي يستعيد ثقة القيادة به، والسبب الثاني: الانتقام من السجناء الذين أذلّوه في التحقيق الذي أجرته اللجنة العسكرية الأمنية يوم الاستعصاء الأول 27 مارس/آذار، وكانت فرصة علي خير بك للانتقام من نزار باعتباره الأقوى حجة في إدانته.
الإساءة إلى سمعة نزار بغاية التحريض عليه:
فيما يخص نزار فقد روّج علي خير بك عن طريق المتعاملين معه وجواسيسه من الإسلاميين والجنائيين أن نزار يتعامل معه، ويكتب تقارير ضد الإسلاميين، وهو يدرك أن نزار يكره الإسلاميين وهم بدورهم – المتطرفون منهم بالخصوص -يكرهونه بل ولقد كفره بعضهم بعد عدة حوارات بينه وبينهم، وانتهتْ إحدى المشادات بينه وبين أبو حيدر الزمّار (حارس بن لادن) وعضو خلية ميونيخ، إلى أن صفعه نزار فأدمى فمه؛ لأن نزار أصرّ على البقاء في المهجع، بينما كان الإسلاميون يطالبونه بالانتقال إلى جناح آخر؛ لأنهم لا يتقبّلون آراءه بالإسلام ومحاولاته الدائمة لمحاورتهم دينياً مستخدماً المنطق، وبالتالي إلزامهم الحجّة، وهو ما أثار استياء القياديين منهم على الخصوص، فاتهمه بعضهم أنه متشيّع، والتشيع عند المتطرفين الإسلاميين يوازي الكفر.
استغلّ علي خير بك الشقاق الحاصل بين نزار والإسلاميين المتطرفين ليصعّده ويزيد في لهيبه، باتهام نزار بالتعامل معه، وكتابة تقارير ضد السجناء الإسلاميين، وحين أصبح الجو بين نزار والإسلاميين لا يطاق، طالب نزار مدير السجن بنقله؛ لأن الإسلاميين كفّروه، وهو يشعر بالخطر على حياته، فربما يقتل وهو نائم كما فعل أبو سعيد الضحاك بأحد السجناء؛ حيث عمد إلى قتله بهراوة حديدية، وهو نائم وحاول قتل ثلاثة سجناء آخرين بنفس الطريقة بعد مشادة بينهم، لكن جواب علي خير بك لنزار كان التالي:
"شو بعملك يعني؟ بدك أنقلك على الميريديان؟ هدول اللي كنت تدافع عنهم".
كلُّ هذا اضطرّ نزار لطلبْ نقله إلى جناح آخر اسمه جناح المختلط أو جناح التجسس، وكان فيه مزيج من السجناء الإسلاميين المعتدلين والأكراد والمتهمين بالتجسس، وأغلبها تهم ملفقة ضد عسكريين معارضين للنظام، وأضيف إليهم الديمقراطيون والعلمانيون وتهم أخرى غير إسلامية.
مَن هو قاتل نزار رستناوي؟
لا شك أن القاتل الحقيقي لنزار رستناوي هو مدير سجن صيدنايا العقيد علي خير بك، الذي فضحه نزار أمام اللجنة العسكرية التي التقت السجناء المتمردين في الاستعصاء الأول في صيدنايا في 27 مارس/آذار 2008، رغم أن البعض يتهم أحد المعتقلين الإسلاميين من مورك -بلدة نزار- بقتل نزار، وهذا الشخص يميل للشقرة وعينية ملونتان، ربما لونهما أخضر على ما أذكر، تعرَّفتُ عليه في جناح العقوبات، بعد الحكم عليّ بأربع سنوات، وكان هذا الجناح يضم أشد الإسلاميين المعاقبين، أخبرني الشاب أنه من بلد نزار، وحين عرف أني أتحدث مع نزار عبر فتحة الجدار التي تفصل بين جناحنا وجناح نزار، قال لي: "سلّم لي على نزار"، وبعد دقيقة أو أكثر تراجع، وقال: "لا، ما تسلّم عليه" وبدا عليه الارتباك، أخبرني أحد الأصدقاء لاحقاً أن هذا الشاب مهرّب وحشّاش، تورط بقضية جنائية، وتحوّل في السجن مدّعياً أنه إسلامي كما جرت العادة مع بعض الجنائيين الذين يوضعون في جناح الإسلاميين.
* شهادة من صديق (غير قادر على التصريح باسمه): "التقيتهُ، يقصد نزار، مرة واحدة، استطاع خلالها أن يترك في نفسي ما يصعب نسيانه، كانت كلماته وعباراته تحمل إيقاعات أخرى لم أكن أسمعها من قبل.. شاءت الأقدار أن اعتقل خلال الثورة ثم أنقل إلى سجن حماة المركزي، وهناك استطعت أن اتكلم مع بعض سجناء صيدنايا الذين نقلهم النظام ووزعهم على سجون المحافظات، أول سؤال سألته لأحدهم من خلف نافذة مكسورة: هل نزار رستناوي على قيد الحياة؟ فأجاب بدون تردد: لا، لقد قتل، وعندما سألته من قتله؟ فأجاب: لا أعلم، لكن الذي أعلمه أنه في صبيحة يوم محاولة اقتحام السجن جاء خمسة ملثمين واقتادوا نزار، وبعد نهاية المعركة الأولى، وجد جثة هامدة في إحدى الغرف وآثار القضبان الحديدية على رأسه، طلبتُ من هذا السجين وبشدة أن يخبرني الحقيقة بمن قتل الرستناوي، فأجاب: ظاهريا نحن، يعني بذلك الإسلاميين أما الحقيقة، فأنا لا أعلم من هؤلاء الخمسة، ولكن بعد سيطرة النظام على السجن حُكِم ونفِّذَ حكم الإعدام بستة أشخاص بتهمة قتل نزار، هذه الشهادة سمعتها من شخصين، كلاهما تم الإفراج عنه، واحد منهما استشهد بعد فترة وجيزة من خروجه بإحدى المعارك ضد النظام، والثاني ما زال على قيد الحياة.
الرحمة لروحك أيها البطل، والذل والعار لكل من شارك في جريمة قتلكْ"، انتهت شهادة الصديق.
من ناحيتي أعتقد أن إعدام هؤلاء الستة بتهمة قتل نزار رستناوي ما هو سوى محاولة لطمس معالم الجريمة، فهؤلاء وإن كانوا منفذي الجريمة فرضا، فإن وراءهم من حرضهم ودفعهم لارتكابها، فالمسألة تخفي أبعد من جريمة قتل نزار، إنها جريمة مدبرة لاغتيال وطن عبر تصنيع قتلة من أشخاص جهلة وساذجين، واستخدامهم لقتل معارضي النظام داخل السجن وخارجه، ودائماً باسم الدين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.