بعد ست سنوات سوداء من الحرب الطاحنة بين أعتى جيوش العالم، التي خلَّفت عالماً من الخراب، ودمرت مدناً عن بكرة أبيها، واُرتكب فيها أفظع المجازر التي لم يشهد العالم مثيلاً لها، وقُتل وشُرّد أكثر من ثمانين مليون إنسان، فضلاً عن المشوهين واليتامى والأرامل، وفي بعض مناطق العالم، حتى الجينات البشرية لم تسلم من آثار الحرب، فإشعاعات القنابل الذرية ومركبات القنابل الكيميائية فعلت فعلها في كل مَن مرت به من البشر، فشوهت حتى الأطفال الذين لم يكون قد خلقوا أثناء الحرب، أو بعد انتهائها بسنوات.
كل تلك المآسي القاسية تركت أثرها في قلوب شعوب العالم، إبّان الحرب العالمية الثانية، وبدأ الغضب والسخط بالظهور لدى الشعوب ضد سياسات الحكومات، وصعدت أصوات النخب والمثقفين في شتى أنحاء العالم تضغط على الحكومات، وتطالب بإحلال السلام والأمن، وسن القوانين والتشريعات، وتوقيع المواثيق لضمان عدم تكرار مثل تلك الكارثة البشرية التي أودت بحياة اثنين بالمائة من سكان الأرض.
ولا ينكر عاقل يحمل في ثنايا روحه أدنى حس بإنسانيته أن أعظم وأنبل غاية تطمح لها البشرية وتصبو لها قلوب الشعوب هي إحلال السلم ونشر الأمن والأمان، فكان أن تم استحداث هيئة الأمم المتحدة بأمانة عامة، ومحكمة دولية، ومجلس اقتصادي واجتماعي، ومجلس للوصاية، ومجلس الأمن، لكن السلام لم يكن يوماً غاية منشودة لعشّاق الأموال الذين يمسكون بعصب اقتصاد الكوكب، ويضعون أيديهم على موارد الطاقة فيه، ويتحكمون في إرادة الشعوب ويتدخّلون بشكل جليٍّ أو خفي في كل صغيرة وكبيرة تحدث أو ستحدث في كل أنحاء العالم ويديرونه بعقلية المغول والتتار، فلا يتوانون عن توجيه مَن يخدمهم من السياسيين للفتك بأي شعب وتجويعه وتشريده، في سبيل الحصول على مورد جديد من موارد الطاقة، أو إبرام صفقة رخيصة من صفقاتهم.
إنهم المغول الجدد، وكما وصف نفسه ذات مرة أمير المغول في إحدى رسائله للمظفر قطز، أحد أمراء المماليك، أستنبط اليوم وصف أحفادهم الجدد من رسالة جدهم، إنهم عبدة المال، جند الدولار في الأرض، جُبلوا من سخطه وسلطانه، لا يرحمون من بكى، ولا يرقّون لمن اشتكى، فعلى مَن عصاهم من شعوب الأرض الهرب، وعليهم بالطلب، فأي أرض تؤويه وأي طريق يحميه، وأي بلاد تنجيه، فما له من سلاحهم من خلاص، ولا من مهابتهم مناص، فأياديهم سوابق، وخدمهم خوارق، وقراراتهم صواعق، وقلوبهم كالجبال، وعبيدهم كالرمال، فالحدود لديهم لا تمنع، والجيوش لقتالهم لا تنفع، ويدّعون أن الدعاء عليهم لا يُسمع.
إنهم أمراء مغول القرن الواحد والعشرين، وحوش بشرية ببدلات رسمية، وسيارات عصرية وابتسامات وديّة؛ لكني أشهد أنهم فاقوا أسلافهم المغول الأصليين في المكر والدهاء، فبعد انتهاء حربهم العالمية الثانية أيقنوا أن الشعوب التي كانوا يحرضونها في الخفاء لقتال بعضها البعض ملّت من الأفكار التي ملأوا رؤوسهم بها كحكم العالم، والتغني بالأعراق والقوميات الزائفة، وأن شعوب الأمم الأخرى تتوعدهم بالهلاك، فقد باتت الناس تحن إلى إنسانيتها التي كادت قسوة الحرب أن تنسيها إياها، فاجتمع أمراء المغول الجدد وفكروا وخططوا ودبروا وقرروا أن تحقيق مكاسبهم وغاياتهم يجب أن يكون عن طريق آليات جديدة أكثر ذكاء، خاصة أن الشعوب لم تعد تنطلي عليها الأكاذيب القديمة، فبدأوا باللعب بالخفاء والضغط على السياسيين والتحكم بقرارات الدول، فكان لهم ظلالهم في هيئة الأمم المتحدة، وخاصة في السيف الضارب للهيئة، ألا وهو مجلس الأمن، الذي يسمح لدول العالم أن تمثل نفسها به بعشرة مقاعد يتم تداولها فيما بينها سنوياً، وخمسة مقاعد دائمة للدول العظمى.
ومن خلال متابعة بسيطة لأحداث العالم ترى ظلال المغول في مجلس الأمن هي الأطول، ويدهم هي الأعلى، حتى إنهم بقليل من الضغط وكثير من المكر والدهاء باتوا يستطيعون التحكم بإطلاق السهم الأكثر قتلاً على وجه الأرض، ألا وهو الفيتو (حق النقض)، ويستعملونه عند الحاجة ضد كل من يفكر أن يمارس حقه في ذلك المجلس من ممثلي الشعوب، ويطالب بالالتزام بالقوانين المعمول بها، والشعارات التي أطلقتها الهيئة للحفاظ على السلام في العالم، فهذه السهام إذا ما قرروا إطلاقها تمكنهم من تنفيذ مخططاتهم في حرق بلد من البلدان، وإعادة رسم خريطته على قياس أطماعهم، والفتك بشعبه وحصاره وتجويعه أو تهجيره خارج بلده؛ لتوطين شعب جديد مكانه أو تغيير التركيبة الديموغرافية فيه، حسب مصالحهم، دون أن يمنعهم أحد، أو يكون له سلطة عليهم، ويتفنّنون في تقتيل واستعباد كل من يخالفهم، حتى إنهم أعادوا العمل بنخاسة البشر من جديد، وقد أصبحت مؤمناً أن مَن يحرك هذه الظلال عقول من أدهى وأقوى وأفتك أمراء المغول التي عرفتهم البشرية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.