دون مراعاة لمشاعر طيف واسع من العراقيين دعا شاعر عراقي (حسين قاصد) يعمل أستاذاً جامعياً عبر صفحته في موقع الفيسبوك إلى تحويل جامع النوري الكبير مع منارة الحدباء إلى مرافق صحية عامة (wc)، وجاءت هذه الدعوة وسط جدل حاد كان قد اشتد قبل وبعد تفجير منارة الحدباء في 21 يونيو/حزيران 2017 بين رواد صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، غالبيتهم من العراقيين، وفي مقدمتهم سكان مدينة الموصل (450) كم شمال بغداد.
ما كان وارداً من شخص يُحسب على النخبة المثقفة أن يستهين بمشاعر طيف واسع من العراقيين، في مقدمتهم يأتي المسلمون، خاصة أبناء مدينة الموصل الذين يرتبطون بعلاقة وجدانية عميقة مع هذا المكان الذي شهد معهم تقلبات الأزمان طيلة تسعة قرون من عمر المدينة التي واجهت فيها تحديات وغزوات أجنبية أرادت النيل من سكانها الذين دفعوا الثمن باهظاً من أرواحهم، إلا أن المنارة بقيت شامخة في مكانها دون أن تنكسر، وكأنها شاهد على تمسكهم بأرضهم ومدينتهم، حتى أصبح الجامع والمنارة هوية الناس والمدينة معاً، وما عاد ممكناً فك الارتباط الرمزي بينهما، فأينما اتجه الموصلي في حدود الجغرافيا كانت المنارة تحرسه روحه وتشعره بالاطمئنان، وهي تقف بارتفاعها الشاهق (55 م) بذلك انفردت الموصل عن بقية مدن العراق بهذا الصرح الديني والتاريخي، وغالباً ما كان يقرن ميل المنارة من قبيل التشبيه مع ميلان برج (بيزا) الشهير في مدينة روما الإيطالية.
لاقت دعوة الشاعر ردود فعل عاصفة بين أوساط المثقفين على صفحات التواصل الاجتماعي بعضهم عبر عن رفضه واستهجانه لهذه الدعوة، وما وصل إليه الوعي بالتراث إلى هذا المستوى المتدني، خاصة أن مطلق الدعوة شاعر وأستاذ جامعي، وليس شخصاً عادياً لم يكن متوقعاً منه أن يلجأ إلى استعمال ألفاظ أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها سوقية لا تليق بمثقف وأكاديمي للتعبير عن رأيه في قضية رأي عام، وعلى درجة من الأهمية والحساسية، سواء من الناحية الدينية أو التاريخية أو الأخلاقية، وهذا ما دفع عدداً من المثقفين إلى أن يطالبوا اتحاد الأدباء والكتاب في العراق بأن يكون له موقف ويتخذ إجراء يدفع الشاعر إلى أن يعتذر عن موقفه، وبعضهم طالب الاتحاد بما هو أكثر من ذلك.
في الجدل الذي تمحور حول هذا الموضوع لا يمكن تجاهل تأثير العامل الطائفي بقدر ما هذا إضافة إلى عوامل أخرى بالشكل الذي ألقى بظلاله الثقيلة على حالة الانقسام التي سادت تلك الحوارات الساخنة.
ومما زاد من حدتها أن جامع النوري كان قد شهد في شهر يوليو/تموز 2014 الظهور الأول لزعيم تنظيم الخلافة أبو بكر البغدادي عندما ألقى خطبته الشهيرة من على منبر الجامع والتي أعلن فيها قيام دولة الخلافة ونصّب نفسه خليفة على المسلمين.
الموصل باتت تعرف بمدينة الحدباء تيمناً بمنارتها التي تميل إلى جهة الشرق، أما عن سبب الميلان فهناك أقاويل وتحليلات كثيرة، بعضها يعزو ذلك إلى العوامل الطبيعية، وبعضها إلى خطأ ارتكبه البناءون أثناء تشييدها، وهناك من يفسر الميلان إلى أن الذي تولى بناءها كان قد تعمد ذلك لتوحي وكأنها تلقي بالتحية على المصلين، وهم يدخلون إلى المسجد.
المسجد مع منارته يعود تاريخ بنائه إلى عام 1172 م في عهد الأمير السلجوقي نور الدين زنكي، وقد خضعا إلى إعادة تعمير وترميم لأكثر من مرة خلال رحلتهما من عمر المدينة التي ناهزت 850 عاماً.
ما يلفت الانتباه أن الشاعر حسين قاصد لم يكن وحده من دعا إلى تفجير المنارة؛ إذا ما أصبحت عقبة أمام تقدم الجيش العراقي في أحياء المدينة القديمة ووصلت العملية العسكرية التي تدور في حدود المنطقة الجغرافية المحيطة بالجامع ضد عناصر تنظيم داعش إلى لحظة خيار صعبة ربما تفرض على قيادة الجيش العراقي؛ لكي يحسم المعركة لصالحه إما التفريط بدماء الجنود في مقابل الحفاظ على المنارة أو العكس.
كان إلى جانب دعوة (القاصد) عديد من الأصوات كانت هي الأخرى تنظر إلى المنارة على أنها مجرد طين مفخور كما أنها ترمز إلى الاحتلال التركي، على اعتبار أن مَن بنى جامع النوري ومنارة الحدباء هو الأمير نور الدين زنكي (1118 – 1174م) الذي يرجع في أصوله إلى السلاجقة الأتراك.
إلا أن (قاصد) تفرّد عن الآخرين بالإيغال في الإساءة المتعمدة لأبناء الموصل بجميع مكوناتهم ولم يقتصر الأمر على المسلمين فقط، وهذا ما يمكن ملاحظته في مشاعر الحزن التي خيمت على بقية سكانها بكافة انتماءاتهم الدينية بعد حادث تفجير المنارة.
أصبح الانقسام هذه الأيام سمة واضحة يفرض حضوره وبقوة على مواقف وردود فعل العراقيين في كل صغيرة وكبيرة، وفي مقدمتهم المسلمون، ولا أظن أن أسباب ذلك تنحصر بما خلفه التغيير السياسي في العراق بقيادة الولايات المتحدة الأميركية بعد عام 2003، بقدر ما تعود بنا أولويات هذا الانقسام إلى ما هو أبعد وأعمق من ذلك بكثير إلى تلك اللحظة التاريخية من عمر المسلمين، عندما اجتمع أصحاب النبي محمد بعد وفاته مباشرة 632 م تحت سقيفة بني ساعدة لاختيار مَن يتولى خلافة المسلمين من بعده، بمعنى أن الحدث التاريخي البعيد لا يزال يلعب دوراً حاسماً في تشكيل الوعي لديهم، ويفرز المواقف وتحديد الخصوم والأعداء فيما بينهم، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي.
إشكالية المسلم في علاقته مع التاريخ بكل التباساته انعكست على الإنسان العراقي المعاصر واعتقلت وعيه بإطاره الثقافي والسياسي في لحظة زمنية خارج التاريخ في بعده الديالكتيكي، وعلى مايبدو فإن هذه الانتكاسة في الوعي أخذت تطفح على سطح الحياة العامة، وبدأت تمارس دوراً سيئاً في تعميق الانقسام المجتمعي، خاصة بعد أن شهدت الأعوام التي أعقبت سقوط نظام البعث في 9 أبريل/نيسان 2003 تمدد الأحزاب والتنظيمات الدينية الإسلاموية (شيعية وسنية)، وهيمنتها على الحياة السياسية، في مقابل تراجع ملحوظ ومخيف للقوى والأحزاب اليسارية العلمانية والقومية في المشهد السياسي، لعل الحزب الشيوعي العراقي الذي لم يعد له أي تأثير في المشهد السياسي، بعد أن كان أبرز القوى السياسية الوطنية التي لعبت دوراً كبيراً في قيادة الشارع العراقي وتوجيهه بالشكل الذي يصبح عامل ضغط كبيراً على الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الإعلان عن تأسيسه عام 1934.
من هنا يبدو الحاضر غائباً بكل متغيراته عن العراقيين بعد أن غيّبته سلطة الماضي، ومتى ما تخلوا عن الدوران برقابهم إلى الخلف، إذا ما أرادوا السير إلى الأمام عندها سيكون من الممكن أن يعقدوا صفقتهم الرابحة مع المستقبل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.