بعد حوالي نصف قرن على الوقائع، يعيد قضاء جنوب إفريقيا فتح ملف جنائي ينتمي إلى زمن آخر تمت التضحية بالحقيقة المتعلقة به فترة طويلة، من أجل المصالحة التي تلت سقوط نظام التمييز العنصري، في خطوة قد تنكأ جروح الماضي وتؤكد القاعدة القانونية أن الجرائم لا تسقط بالتقادم.
اعتقل الناشط السري في الحزب الشيوعي، أحمد تيمول (30 عاماً) مساء 22 تشرين الأول/أكتوبر 1971 في جوهانسبورغ. وبعد خمسة أيام أعلنت وفاته، نتيجة سقوطه من الطابق العاشر لمقر قيادة الشرطة.
وكانت خلاصة التحقيق الذي أجرته السلطات نهائية. وجاء فيه أن الناشط الذي كان يقاوم التمييز العنصري قضى منتحراً.
لم يصدقوا انتحاره
وخلص القاضي آنذاك جي.جي.إل فيليير، إلى القول "نظراً إلى الشهادات، فإننا نستبعد حصول جريمة قتل، ومجرد تخيل ذلك أمر مثير للسخرية". وأضاف أن "المتوفى قفز من النافذة وارتطم بالأرض، ومن العبث طرح أي شيء آخر". وأغلقت القضية.
ولم تصدق عائلة احمد تيمول وذووه هذه الخلاصة، بدءاً بشقيقه الصغير الذي عانى أيضاً من سجون النظام العرقي الأبيض في تلك الفترة.
وأكد محمد تيمول "لا يستطيع أحد أن يعرف إن ألقي به من النافذة أو أرغم على القفز، لكني كنت مقتنعاً على الدوام بأن أحمد مات بين أيدي الشرطة".
وأضاف ابن أخت القتيل، امتياز كاجي "إنه تعرض لتعذيب رهيب". وقال "إذا ما رأيتم صور جثته، لا يصدق أحد أن ما حصل انتحار. في 1971 كان الجميع يعرفون أن الشرطة تقتل الناس في أثناء الاعتقال".
وبسبب هذه القناعة الراسخة، قرر ابن اخته كشف الحقيقة حول وفاة خاله كل الوسائل.
هل صليت لأجل خالك؟
وطلب امتياز كاجي المساعدة من وسائل الإعلام، طوال سنوات، وأنشأ مؤسسة ونظم معارض ونشر كتاباً، وعين أيضاً تحرياً خاصاً بالتعاون مع منظمة غير حكومية". وواصل جهوده حتى وافقت النيابة أخيراً في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، على أن تعيد فتح الملف.
وكتب له أحد المدعين "ثمة أدلة لا تدحض وتستوجب إعادة فتح التحقيق لما فيه مصلحة العدالة".
وأسندت القضية إلى قاض، وتحدد موعد الجلسة الأولى من المحاكمة في 26 حزيران/يونيو أمام محكمة في جوهانسبورغ. ويقول امتياز كاجي "هذا تتويج لنضال طويل".
وقال "ليست لدي سوى ذكريات ضئيلة جداً عن خالي. عندما قتل، لم أكن سوى في الخامسة من عمري". وأضاف "لكني ذهبت كثيراً إلى المقبرة مع جدي وجدتي. ودائماً ما كانت جدتي تسألني +هل صليت من أجل خالك؟"
وفي نيسان/أبريل 1996، روت جدته نهاية أحمد تيمول أمام لجنة الحقيقة والمصالحة التي تكشف أمام الرأي العام ويلات التمييز العنصري.
وقد شعر امتياز كاجي بالاستياء. وقال "في ذلك اليوم أقسمت على أن أبذل كل ما في وسعي للحفاظ على شرف خالي وإرثه".
وعلى رغم الشهادة المؤثرة جداً لجدته، سقط الملف في بحر النسيان. وعلى غرار قضايا أخرى كثيرة معروضة أمام لجنة الحقيقة والمصالحة، لم يتابع القضاء القضية لعدم توافر الأدلة.
إلا أن كاجي أعاد التحقيق إلى الواجهة، ونبش وثائق قديمة، وفي 2002، قدم طلباً لإعادة فتح التحقيق إلى النيابة العامة الوطنية الجنوب إفريقية، التي رفضته بعد أربع سنوات.
قدوة
واعتبرت ياسمينة سوكا مديرة مؤسسة حقوق الإنسان والعضو السابق في لجنة الحقيقة والمصالحة، أن "رفض إعادة فتح هذه الملفات كان بصراحة قراراً سياسياً".
وفي المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم، يتردد أن هذه التحقيقات يمكن أن تؤدي إلى توجيه التهمة إلى بعض أعضائه، كما قالت. وأضافت "سواء كان ذلك يشكل تهديداً أم لا، فهو يفسر تحفظ الحكومة عن إعادة طرح هذه القضايا".
وبمساعدة من مؤسسة حقوق الإنسان، طلب امتياز كاجي من جديد في 2016 إعادة فتح القضية، وحصل على ما يريد هذه المرة.
وحتى لو أن عناصر الشرطة المتورطين قد توفوا، فهو يتوقع كثيراً من المحاكمة التي تبدو وشيكة. وقال إن "القاضي جي.جي.إل فيليير كتب أن أحمد تيمول انتحر، وأن لا أحد مسؤول عن موته. أريد إلغاء هذه الاستنتاجات".
ولكن حتى بعد مرور نصف قرن، لا يزال البعض يدافعون عنها.
فقد خرجت مجموعة من قادة الشرطة السابقين لنظام التمييز العنصري، من الظل للدفاع عن فرضية الانتحار. وأكد المتحدث باسمها جي.بي. بوتا أن "الأجهزة الأمنية لم تكن مضطرة أبداً لقتل تيمول".
وأبعد من حالة أحمد، تأمل عائلة تيمول في أن تشكل سابقة وأن تؤدي معركتها إلى إظهار الحقيقة. وفي جنوب إفريقيا، ما زال عدد كبير من العائلات الأخرى للضحايا، ينتظر الحقيقة حول "السنوات القاتمة" للتمييز العنصري.
وقالت ياسمينة سوكا إن "توقف عمليات الملاحقة هو بمثابة خيانة للمثل العليا التي بنيت عليها جنوب إفريقيا الجديدة" من المهم الخروج من زمن الإفلات من العقاب".
وأكد محمد تيمول أن "القضية حصلت قبل خمس وأربعين سنة، لكن العدالة لا تصل متأخرة أبداً. وتنتهي دائماً إلى الكشف عن الحقيقة".