لم يحدث شيء في هذا المكان

قلت لنفسي: أهو فعلاً مشفى للتوليد؟! لا إنه ليس كذلك، لربما هؤلاء الناس في انتظار أن يفتح الباب لكي يبدأوا بعملية إعادة تأهيل للمكان، ربما جاءوا لينظفوه أو يعيدوا بناءه من جديد، وأخذت أضع افتراضات من هذا القبيل حتى ألغي فكرة أنه مكان للولادة، ولادة!! لا ولادة في هنا، مضيت وأنا أتمتم: لم يحدث شيء في هذا المكان.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/14 الساعة 06:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/14 الساعة 06:10 بتوقيت غرينتش

مضى عامان على تلك العاصفة الرملية، عاصفةٌ جابت أرجاء أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ وصُبغت جدران أبنيتها بلون الماضي، هل كان التاريخ ملوناً؟!

يحكى أنني كنت أتجول في يوم أيلولي من عام 2015 في مدينة الياسمين دمشق، جولة بعد يوم من ثورة السماء على مَن تحتها، حواس خمس دون السادسة ودفتر صغير وحذاء جيد، كان كل ما كنت بحاجته في ذلك اليوم.

وسأبدأ مدونتي هذه بالشيء الذي ربما اعتدت عليه، وهل يبدأ الإنسان سوى بما اعتاده ووثق به؟!

اعتدت تغيير الطريق المختصر والمؤدي إلى جامعتي لتجنب رؤية الزحام الذي يغرق مبنى "الهجرة والجوازات"، والذي كلما رأيته أوهمت نفسي أنه ليس لغرض السفر ورمي الأمكنة، كنت أقول في نفسي: إياك أن تصدق ما ترى، لا أحد يرغب بالرحيل، وهذه الحشود لم تتجمع لذلك، لعلها تنتظر دورها في نيل نصيبها من حصص اشتراكية، أجل أقنعت نفسي أنهم ينتظرون مؤناً اعتادوا عليها بعد عقود من الاشتراكية مرت بأرضهم، مضيت وأنا أقول في نفسي: كل شيء طبيعي.. لم يحدث شيء في هذا المكان.

مضيت معطياً ظهري لمشفى التوليد، مشفى حكومي يبعث رائحة الموت في مركز المدينة، لم يكن أحسن حالاً من سابقه فهو أيضاً يعج بالمنتظرين على بوابته، وجوه شاحبة وأخرى غاضبة تحت شمسٍ صيفية تركت تأثيرها عليها.

قلت لنفسي: أهو فعلاً مشفى للتوليد؟! لا إنه ليس كذلك، لربما هؤلاء الناس في انتظار أن يفتح الباب لكي يبدأوا بعملية إعادة تأهيل للمكان، ربما جاءوا لينظفوه أو يعيدوا بناءه من جديد، وأخذت أضع افتراضات من هذا القبيل حتى ألغي فكرة أنه مكان للولادة، ولادة!! لا ولادة في هنا، مضيت وأنا أتمتم: لم يحدث شيء في هذا المكان.

أخذت خطواتي تتسارع لتجنب المزيد من الأمكنة والافتراضات، ووصلت لبداية سور الحرم الجامعي، ولأني لا أستطيع أن أمشي وأن مغمض العينين اضطررت أن أقلب تلك القطع الحديدية المكونة له قطعةً قطعةً، وأخذت أسترجع ذكرياتي الأولى معها، فقد كانت تلك القطع تحمل مئات الكتب القيمة التي تباع للمارة، وكيف صنعت شيوعيتي الخاصة سوى بتلك الكتب السوفييتية القيمة، كتب صنعت هذا الإنسان الذي يتألم الآن وهو يكتب هذه الكلمات، ما الذي تغير حتى استبدلت تلك الرفوف من الكتب بلافتات لطلب المساعدة تنام تحتها عائلات مشردة؟!

يبدو أن بيع الكتب هنا لم يعد مجدياً، فقرروا بيع الضمير، عبارات أسرعت في رميها من خيالي الذي يحاورني، وبدأت أصرخ فيه وأقول: توقف عن ذلك، ربما ذهبوا ليأتوا بكتب جديدة وسيعودون غداً وهؤلاء الفقراء في انتظار كاميرا ومخرج وعملٍ سيعرض في نهاية العام، هرولت وأنا أقول في نفسي: لم يحدث شيء في هذا المكان.

وقبل وصولي إلى الباب الرئيسي سمعت صوت دويّ قوي صدر من داخل الجامعة، تتالت بعدها صيحات الطلاب الخائفة: اهربوا.. قذائف.. قذائف.

لم أخف حينها فعاد لا وعيي ليخبرني بأن هذا الشيء غير حقيقي، أنا الذي لطالما ظننت أن الأصوات العالية بُشرى خير، لربما سيقومون بتوسعة هذا الحرم الجامعي ليستوعب المزيد من الطلاب ويجنب الشارع الأمية أو إقامة مشروع علمي ضخم يستقطب علماء المنطقة، يبدو أنني نجحت بتنبؤ فكر الاستقطاب لكن لم أحدد ماذا أستقطب!!

ابتعدت عن الجامعة وأنا أقول: حسناً حسناً أن لم أنم جيداً مساء أمس، هذا هو السبب، وأكملت جولتي وكأن شيئاً لم يحدث في هذا المكان.

وفجأة تسارع كل شيء، بات الجميع متوتراً وغاضباً وأخذت الطائرات تشق السماء وتصدر أصواتها المرعبة لهم، لم تكن ترعبني؛ لأني كنت أظنها اختبار ذاكرة لي، هل أنا حقاً أتذكر تواريخ الاحتفالات العسكرية وانتصارات قوميتي.

دخلت متجراً كبيراً لأشتري ما آكله، لكني توقفت عند الأرقام المكتوبة فوق السلع، فقد كثرت فيها الأصفار على نحو لم أعتَده، وأخذت أسترجع حصصي الأولى في مادة الرياضيات من مرحلتي الابتدائية، هل كانت الأصفار مهملة في الطرفين أم من الجهة اليسرى فقط؟!

أوقف تأملي البائع صارخاً: بسرعة سنغلق المتجر مبكراً هذا اليوم ألا ترى ما يحدث؟!

أعطيته 150 ليرة سورية ثمن ربطة من الخبز دون أن أخبره أن عليه تحسين خطه، فالصفر المضاف حديثاً رسم بطريقة عبثية أو بتعبير أدق همجية.

فتحت دفتري الجيبي وكتبت في رأس الصفحة: لا تقلق لم يحدث شيء في هذا المكان.

ثقل الدم في رأسي وشعرت بأنني بحاجة للعودة إلى المنزل وأخذ قسط من الراحة فذهبت إلى موقف الباصات في أشهر ساحات العاصمة "ساحة الأمويين"، انتظرت هناك طويلاً لكن دون جدوى، يبدو أنها ساعة الذروة ولن أجد مكاناً شاغراً قبل ساعتين.

وفي هذه الأثناء أخذت أقلب المكان الذي كنت أحفظ مسبقاً تفاصيله، رميت نظرة على السيف الدمشقي وهو يقوم في عمله بسند السماء، أمعنت النظر فيه قليلاً قبل أن أصوب نظري إلى الجهة المقابلة.
فاجأني نصب تذكاري لامرأةٍ على الطرف الطرف الآخر من الساحة، كانت امرأة فارعة الطول بجمال ساحر وفتان.
مسحت نظارتي واتجهت نحوها قائلاً: من تكون هذه الفاتنة؟!

وعند وقوفي أمامها كانت الصدمة، لقد كنت أقف أمام زنوبيا ملكة تدمر، بدأت أهذي وأقول: ما هذا؟ ما الذي تفعله الملكة هنا؟!! كيف لها أن تترك مدينتها؟! ثمة شيء غريب.

أخرجتُ جهازي اللوحي من حقيبتي وكتبت في محرك البحث ماذا تفعل الملكة زنوبيا في وسط عاصمة الأمويين؟!

كانت النتيجة مُفقدة للصواب، فقد أظهر المحرك مئات التقارير عن مدينة تدمر المحاصرة من قبل تنظيمات إرهابية، وأن البلاد تعاني من الحرب على امتداد 4 سنوات، وأن مئات الآلاف ماتوا بفعلها بينما شرد الملايين خارج البلاد وبانتظار المزيد.

وقفت مذهولاً وحيداً صامتاً بحضرة الملكة، خارت قواي، أعلنت الولاء لها وبكيت، وأخذت أصرخ كالمجنون: لقد غيروا التاريخ، لقد غيروا الجغرافيا، لقد غيروا كل شيء… وقعت أرضاً وكانت آخر كلماتي.. لقد حصل شيء مخيف في هذا المكان.
منذ ذلك الحين وأنا ميتٌ على قيد الحياة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد