مؤلمة كانت تلك الأسئلة بقدر نفاق الأجوبة وكذبها، لا سيما أنها كانت من شخص لا يختلف بكذبه عنك إلا أنه بادر بالسؤال ليبادرك هو أيضاً بذات الكذب، وكأن الأمر مجرد كلام تنطق به الألسنة.
كيف حالك؟
– أنا بخير.. وأنت؟
تعودنا الكذب واحترفناه، بل أصبح عادةً لدينا، ربما تبدو الأسئلة بسيطة وبريئة، لكنها حتماً كاذبة كالجواب الذي أتى سريعاً دون دراية، وكيف يكون كلانا بخير؟!
لماذا أخدع نفسي وتخدعني؟ ألسنا نموت ببطء كرجل أشعل سيجارته منذ خمسين عاماً ولم يطفئها؟ ألسنا نموت في كل ليلة نسمع فيها ثلاثة حروف، عن اسمها؟
لا لم أعد بخير منذ سنوات، دعني أكُن صادقاً لمرة مع هذا السؤال: كيف يكون بخير مَن فقد وطنه؟ هل ترى تكفي الكلمات لأكون كذلك؟ لا تصدق ما تثرثر به الألسنة، هي حتماً تنطق بما لا تهوى، لو كان حالي وحالك بخير لما احتجنا أن نسأل ونكذب على أنفسنا.
فكيف يكون بخير مَن يرى أطفاله بدمائهم يرسمون خارطة الوطن الجديد؟! كيف يكون بخير من يرى البحر يبتلع فلذات كبده؟! ومن يرى الموت يحوم في سماء بيته وحول أطفاله وزوجته؟!
وهل يكون بخير مَن يسكن الخيام، أم هل يكون بخير من بات وأبوه صورة معلقة على جدران البيت، أو ربما من بات يرسم في كل لحظة صورة وصرخة لأخ أو أب معتقل في غياهب السجون؟!
لم يعد يعنيني أن تصدق جوابي أو حتى سؤالي لك، ولم يعد يهمني ماذا ستحكي بعد كل هذا، فدرجة اللامبالاة تخطت ما تتوقعه منذ أن رحل من نحب، كان الموت قدره ليكون لنا ما ترى الآن.
لا تسأل بعد هذا عن شيء، فأنا لست بخير ما دام طاغوت دمشق يرقد فيها بخير، أنا لست بخير طالما مجرمو الحرب بخير، أنا لست بخير حتى أرى المسمى زوراً بـ"الأسد" في تلك التي اسمها من ثلاثة حروف "شام" ذليلاً بيد الثوار.
أنا لست بخير حتى أراه يغرق في شواطئ اللجوء، ويموت برداً في خيام النزوح، أنا لست بخير حتى أراه يموت أشلاء بالصواريخ والطائرات، يموت ذبحاً بسكين الإرهاب أو ربما شنقاً أو حتى دهساً.
بل حتى أريد أن أراه يصطف على طابور الإغاثة منكسراً ذليلاً، أو حتى أراه يموت شوقاً وألماً لفقد من يحب، فلا شيء يصف حجم الألم بداخلنا، لا شيء يطفي أو يخمد لهيب جراح أشعلها ذاك الطاغوت.
ربما الآن أحتاج لعشرات السنين لأخفي مصابي، ولأرسم ضحكة ممزوجة بتعب المشاهد والذكريات، حينما أذكر مَن رحلوا تحت التراب بلا عودة، أو هرباً عبر البحار والقارات لا ينوون عودة أو موعد لقاء في ما تبقى لنا من الحياة.
وكل سبل الحياة تشهد اليوم بأن الخير مستتر، لا وجود له في حياتنا لا تسأل عن ذلك، فربما بات علينا اليوم أن نؤمن بأن الموت حق، وبأن البعد ليس مجرد مسافات تفصلنا، وأن الحياة ستكمل مسيرها إذا كنا بخير أو دونه حتى؛ لذا آمل أن تكونوا بخير فوق التراب أو تحته، وآمل أن أتقبل غيابكم وأواسي نفسي بأن الحياة جميلة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.