نعم لقد دخل القرية جنود، واغتصبوا نساءها وقتلوا رجالها، بدأ العويل والصراخ وخرجت كل واحدة وهي تلملم كرامتها المبعثرة، بدأت الصيحات والتنديد وقمم هنا وهناك، إلا امرأة خرجت ورأس المغتصب بيد أولادها، يرى إخوتها أنني لم أرضَ بتبعيتكم واستسلامكم، فأنا التي نوديت باسمي وكنيتي ولم أرضَ لنفسي أن أكنَّى بعائلة مالكي أو مهيمني، ولم أقبل الهيمنة على مر التاريخ والعصور، فكيف الآن؟ فأنا سوريا أنا الحرة وهؤلاء أولادي، أنا التي مر عليها المغول والتتار وبقيت سوريا، وذهب الباقون أدراج الرياح، نظر الإخوة وقالوا:
(ستعيرنا بالشرف الذي فقدناه) إنها كمثل النبي لوط الذي دعا قومه لترك الأفعال المشينة، فقال القوم المنغمسون بالذل والهوان وعبادة الشهوات: (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)، فلا تستقبلوهم في دياركم وشردوهم ولا تفتحوا لهم حدوداً، ولا تزوجوهم ولا تسمحوا لهم بالعمل، وأعانوا فرعونهم الذي خرج ليقول لهم: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) وهذا عَزْمٌ من فرعون على قتل موسى، وطلب الدعم والتهيئة النفسية، لقتل التمرد، وهذا ما دأب عليه المستبدون دائماً، فمنهم من قال لهم: صراصير أو حشرات أو جراثيم أو فئران أو شذاذ الآفاق، أو حتى البعض لم يرَهم فقال لهم: (مَن أنتم؟)، كل مجتمع ومصطلحاته الدارجة، أما فرعون فتابع قائلاً: دعوني حتى أقتل لكم هذا (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي: لا أبالي منه، (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ) يخشى فرعون أن يُضِلَّ موسى الناسَ ويغير رسومهم وعاداتهم، وهذا كما يقال في المثل: "صار فرعون مُذَكِّراً" يعني: واعظاً، يشفق على الناس من موسى.
لقد تآمر إخوته عليه، باعوه بثمن بخس وابتلي بالجسد وعمل بدراهم معدودات، وكانت تتناقله الأيدي، وانتقل إلى فتنة البلاء بالجسد، فقال السجن أحب إليَّ وطال عليه السجن فدعا ربه، كدعاء بقية الرسول: (إني مسني الضر)، (لا إله إلا أنت سبحانك)، فأرسل الله رؤيا إلى عبده ليفرج عن يوسف، ذلك الابن الذي غار منه إخوته؛ لأنه رأى أحد عشر كوكباً، وتلك الشام أرض المحشر والميعاد، وتصبح قصته قصة نبي بلا معجزة، أدار مملكة وخلد اسمه وانتقم ممن حاك ضده المؤامرات بنجاح باهر، وخير ووفرة بعد سبع عجاف، وذهبت السنوات وأتت الأيام وعاد الناس إلى النكران والكفر؛ ليأتي الله بنبي جديد اسمه محمد، هجر وطرد من مدينته وأرضه، أوذي وشُج وجهه، كيف وهو المؤثر القادم؟ فالطغاة والحيتان والنظام العالمي آنذاك لا يريد مؤثراً جديداً، فتكالبوا عليه وأخرجوه ومن معه من ديارهم، بلا سند وبلا مستندات، ليسيروا تائهين بين الأراضي والصحاري، ويقفوا عند الحدود، ويأكلوا من خشاش الأرض، لم يكن آنذاك فيسبوك يؤنسهم، أو جوال يوصل صوتهم، بل يقين داخلي بأن الظفر لنا، وأن مَن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، وأن من يدفع الثمن سيحصل على السلعة، وكان في كل الأزمان منعكس بافلوف (العالم الروسي الذي اكتشف منعكس بافلوف الشهير) موجوداً، فكل زعيم فرعوني يشير إلى قومه بأن خروجكم عن طاعتي، يعني أنكم ستواجهون مصير مَن صدح بحنجرته بأصوات الحرية المتعالية وشقت حدود السماء والجغرافيا، وتجاوزت ختم الجوازات على المعابر، لقد اصطدمت تلك الصيحات مع عمامات المعممين المختلفة ألوانها، والتي هي رتبة دنيوية، عملوا الكثير لأجلها، ولا يحق لشباب صغير أن ينازعنا ملكنا عليها، فأتخموهم بمصطلحات (ريادة الأعمال، منتديات وملتقيات الشباب، الجندر والمساواة بين المرأة والرجل)، كما أتخمت فرنسا السوريين يوماً بمصطلح (أنتم لكم الجنة وعليكم الزهد لتنالوها، واتركوا الدنيا لنا لنديرها).
ولكن الله يعلم دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، ولا تخفى عليه خافية، فكل ما جرى أعطى الانطباع الصحيح غير المشوش، وأصبح مفهوماً لكل عربي من يحكمه، وما تعب عليه مئات السنين لإخفائه فجَّره شباب عربي هنا وهناك، وأصبح منكشفاً للعيان، وهذا الشباب الحر اليوم يعاقب على ما كشفه، وإلى الآن لم يرضخ كغيره، وأكبر دليل كثرة المؤتمرات والمحادثات والمفاوضات، لتليين المواقف وإنتاج وجوه جديدة، هنا وهناك، لا تصل إلى المبتغى في معرفة رؤوس التأثير وكيف يؤثرون، فكل ما يجري لمعرفة طريقة التفكير الجديدة التي أفرزت تغييرات الشارع العربي والتي لم يستطع رصده كل ما طور لذلك فشلت، نعم لقد أصبح المجتمع المدني العربي ضعيفاً وهشاً إلا أنه أكثر تغلغلاً، وما نشاهده إعلامياً هو زبد قال عنه المولى -عز وجل- في سورة الرعد: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً)، (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال)، فكل ما تشاهدونه زبد جرفه السيل، فلا الكفاءات هاجرت، بل غيّبت، ولا الأحرار ماتوا بل استكانوا ليعيدوا التكتيكات، كونوا صابرين ولله قانتين، أكثروا الدعاء والمسامحة في رمضان، واجعلوا رمضان القادم اجتماعاً على قلب رجل واحد، قلب رجل بدر الذي أيده الله بملائكته، قلب الخنساء التي امتثلت لقوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين).
أيها الشاب العربي الكريم المخذول الغريب في هذه الأرض، لا تجزع فاليوم أشرس معركة تلك التي تريد فيها أن تحقق ذاتك في عالم يبذل قصارى جهده ليجعلك كالبقية، فالمجد سيكون لأولئك الذين يطحنهم العالم كل يوم، ويقفون على ناصية الحلم ويقاومونه بالسخرية والضحك، ينظرون في عيني العالم مباشرة ويضحكون، كيف لا وهم أبناء محمد الذي كان أكثر الناس هماً وتبسماً؟! لا تيأس وأينما حللت أزهِر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.