السوريون في مشكلة عصيَّة والعالم يتفرج، قد يغضب من أجلهم أحياناً ويتعكر مزاجه ثم يدير قناة التلفاز أو يزيح الخبر المزعج بإصعبه وينتهي التعاطف بلحظة.. كل هذا ويأتي مَن يصب الزيت على النار من فنادق الخمس نجوم والحياة المخملية بعبارات طنانة منمقة يدين فيها النظام، ثم يثني على التكفيريين الذين إن كان بينهم لقتلوه.. وهكذا تظل سوريا تحترق، ويظل المنتفعون يكنزون الذهب والفضة وفكرة (اللاحل) هي السائدة! وحين يُطرح المشروع الديمقراطي ينبري الكثيرون في تخوينه، ويكيدون له بحجة أنه يطرح مشروعاً لتقسيم سوريا.. وهذا إجحاف يقيني بحقيقة (اللامركزية).
فلماذا لا يفكر السوريون بهذه الحقيقة بشكل جدي؟ خاصة أن جوهر اللامركزية ينطوي على إعادة تكوين الدولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، مما يعضد بناءها ويجعلها قادرة على التفاعل والتأثير في المجتمعات ذاتها أو الأفراد من جهة، أو في الدولة السورية كبناء وجودي والفضاء العالمي من جهة أخرى.
هذا التطلع نابع من سياسة (الأمر الواقع) الذي آلت إليه سوريا، والحصيلة إن لم يتم العمل به، فمصير البلاد إلى مزيد من الاستمراء في الفناء البطيء، لعله لا يدرك من يتطلع إلى أبعد من أنفه أن هذا الحل هو الأجدى، خاصة أن الدول العظمى الفاعلة في الأزمة السورية هي مَن يتطلع إليه! وتقف على تعطيل أية حلول أخرى غيره، والكل يدرك ذلك، فالمغايرة في الحلول تتأثر طرداً في استمرارية الأزمة إلى ما لا نهاية وتفشل تباعاً، فلماذا التمسك الأعمى بحلول آيلة للفشل لا محالة؟
النظر بموضوعية إلى سوريا بشكل ديمقراطي تعددي يجعلها "أمثولة" لبناء وطن نموذجي كفيل بأن يكون نبراساً يحتذى به بين الدول الأخرى، وقد تجسد فيها (اللامركزية) البديل الفاعل في حل مشاكل دول الشرق الأوسط التي يؤججها العابثون باستقرارها في كل حين وآخر.
فالتجربة الليبية والتجربة العراقية قبلها والآن التجربة اليمنية دليل ملموس وواقع كئيب يعكس خيبة أمل عريضة بين الشعوب.. من هذه الرؤية تلتزم القوى الموجودة على الأرض بمحاربة الإرهاب بكل أشكاله، وتسعى مع الدعم السياسي الدولي إلى تمكين الحل الديمقراطي، رغم كل العوائق المحيطة به، ويقوم قطبا المعادلة الأميركية والروسية بترجمة هذا الحل إلى واقع معاش يوماً بعد يوم.
من جانب آخر يبذل المنتفعون والمرتزقة قصارى الجهد لإبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، ويحاربون الحل الديمقراطي الذي يضمن تماسك الدولة السورية بكل أطيافها وطنياً وإقليمياً ودولياً بمبررات علنية، مجلمها اصطفاهم مع خفافيش الظلام الذين أغدقوا عليهم أموالاً أعمت بصيرتهم، حتى قال معارضاً يدَّعي الوطنية: (إن رضا قطر عندي أهم من البلدات الأربع: كفريا والفوعة والزبداني ومضايا)، ولم يستحِ معارض آخر مبرراً الإيغال في التشفي بقوله: (يجوز قتل الجنين لتعيش الأم)، والجنين بالطبع هم السوريون.
إن المخاض العسير الذي تمر به سوريا يدفعها إلى قعر الهاوية، وكذا التدخلات السافرة والخارقة لسيادة الدول، وحقوق الجوار، ضاربة باحترام الحدود والمواثيق بين الدول عرض الحائط، مُعززاً بإرسال البعثات التكفيرية التي أوغلت بالتدخل في الشأن السوري مدعومة من ممالك الكره والبغضاء والرجعية، تلك التي تسعى من خلالها إلى وضع – سوريا الشام التي حكمت يوماً ما بين الصين وإسبانيا – تحت وصايتها وتبعيتها الرخيصة من خلال أزلامها وصعاليكها!
ينبغي على السوريين ألا يجعلوا الشطط في المنفعة الذاتية والقولبة الشخصانية تعرقل طموحهم في تقرير مصيرهم؛ إذ عليهم التوصل بقناعة راسخة إلى قرار صلب يمنح فرصة فريدة لتوزع السلطة السياسية والقضائية والإدارية باعتبارها قوة ديناميكية مرنة ورحبة تجعل سوريا أكثر توازناً وحيوية، وتشتمل هذه الديناميكية على نقل المسؤوليات إلى الأقاليم، ومنحها السلطات المعقولة التي تساعد على إدارة الدولة بجودة البلدان المتطورة تلك التي تعتبر إسعاد المواطن ورفاهيته من أولوياتها، هذه السلطات على تناغم وانسجام تامّين مع مركزية قرارات الدولة في العلاقات الدولية والشؤون المصيرية، وهي على التزام باستمرارية وإجبارية وحدة الجغرافيا السورية كمبادئ فوق دستورية.
التفكير ملياً بالإنسان غاية سامية، وفوق كل اعتبار، والنظر في كل لحظة إلى الأطفال الصغار والعجائز من النساء والرجال لا بد أن يعيد الصواب إلى العقول، ثم النظر إلى واقع السوريين في الشتات ودول المذلة والتشرد والبؤس والشقاء وحتمية الأمر الواقع، والمقارنة مع ما هم فيه يجعل من النجاعة السيطرة على الجموح والتراجع إلى الوراء قليلاً، وفسح المجال أمام الحل رغم هيمنة الأقطاب عليه.
إن طرح اللامركزية ليس هدفاً بحد ذاته بقدر ما هو وسيلة وأداة تحمل الحلول الإيجابية في طياتها لتعايش طويل الأجل، وهي الطريقة المثلى لانتشال البلاد من دوائر السوء.
هذه الحالة المصيرية لا تلغي البصمة الوراثية لأرومة الدولة السورية أو البعد الاستراتيجي والإقليمي لها بقدر ما ترفدها بأجود القرارات التي تسهم في تقوية الحالة الديمقراطية ضمن مفهوم التضامن المصيري والحتمي بين الأقاليم، مع مراعاة التوازنات التي تحترم معادلة التقارب بينها، وبلورته على هذا الأساس محاكاةً لمفاهيم يفهمها الغرب الغارق في التوجس من مصير سوريا المستقبلي جيداً.
هذه الآلية السياسية يجب أن تحفز السوريين على التلاقي من أجل صياغة دستور للبلاد بهيكلة قانونية فاعلة تمنح سوريا حياة جديدة بثوب عصري جديد يضمن للجميع حقوقه ومستحقاته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.