تم استخدام مصطلح مبدأ حق تقرير مصير الشعوب وبأشكال متفاوتة منذ أواخر القرن التاسع عشر، كما تم تطوير وتعميق محتواه منذ نهاية الحرب الكونية الأولى، وكان وما زال مثار اجتهادات وتفسيرات متباينة في التطبيق والتفاصيل في الأوساط الفكرية والقانونية، ولكن الكل متفقون على مبدأ حرية الشعوب حسب إرادتها واختياراتها المحددة، خصوصاً منذ أن تبنت هيئة الأمم المتحدة عام واحد وخمسين وتسعمائة وألف هذا المبدأ في ميثاقها بصورة حاسمة، ولم يعد المجال متاحاً أمام خصوم هذا الحق -وجلهم شوفينيون إلى حدود العنصرية- ينتمون إلى القوميات الغالبة السائدة في التلاعب بمصطلحه، ووضع الشروط التعجيزية من حوله، وتحجيمه في إطار الأوتونومية أو الفدرالية، أو ربط مصير شعب ما مثل الشعب الكردي شاءت الإرادة الاستعمارية حرمانه من الحرية، والإبقاء عليه في إطار حدود دول تحكمها أغلبيات عددية من أقوام أخرى، بأن تشارك في تقرير مصير الكرد نيابة عنه حيث النتائج مرسومة سلفاً.
استفتاء شعب كردستان العراق
من الواضح أن القيادة السياسية الحكيمة، وفي الحالات المصيرية، من واجبها العودة إلى الشعب لتحسم الأغلبية أمرها حول الخيار النهائي الذي يجسد إرادتها المشروعة، وهذا ما تتبعه الآن رئاسة إقليم كردستان العراق، بالتشاور مع القوى الشعبية والسياسية، ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى شركاء الوطن من المكونات السياسية العراقية، من أجل توفير شروط تنظيم الاستفتاء العام في الوقت المناسب، وأغلب الظن أنه سيكون في بحر هذا العام؛ حيث سيترك المجال للمواطنين لتحديد سبيل تقرير مصيرهم بالاستقلال أو الكونفدرالية مع عرب العراق أو الاكتفاء بالفدرالية المتجددة.
لا شك أن عملية الاستفتاء ستشمل كافة أطياف وقوميات شعب كردستان العراق، وسيضع الجميع أمام الاستحقاق، أي أن كل قوميات الإقليم ستصوت لتقرر مصيرها، وليس الكرد فحسب، وسيتحول كردستان إلى موقع متقدم في حل قضايا المكونات الأخرى، مثل المسيحيين (الكلدو – آشور – سريان – أرمن)، والتركمان والعرب المقيمين، ليس ضمن الحدود الإدارية الراهنة للإقليم فقط، بل في مناطق ومدن ما زالت تحت رحمة المادة 140 من دستور العراق، مثل سنجار وسهل نينوى وكركوك وغيرها.
إن سير عملية الاستفتاء كما هو مقدر لها هو تعزيز للتجربة الكردستانية الواعدة في الإقليم وعنوانها البارز: العيش المشترك بين كل المكونات والحل السلمي الديمقراطي عبر الحوار لمختلف القضايا، وحرية السوق، وترسيخ التسامح القومي الديني المذهبي، كما سيمهد السبيل -كما ذكرنا- لتنفيذ مشاريع إقامة تنظيمات إدارية جديدة تستجيب لإرادة الغالبية الدينية والإثنية في سنجار، التي حسمت مسألة ارتباطها المصيري كجزء من كردستان العراق منذ زمن بعيد، وكذلك منطقة سهل نينوى التي ستقرر طبيعة علاقاتها حسب العملية الديمقراطية مع إقليم كردستان والمركز الاتحادي ببغداد.
إن الفضل في تحقيق عملية الاستفتاء كاستحقاق ديمقراطي حضاري، ومهما كانت نتائج الخيارات، يعود إلى الجميع من كرد وعرب وغيرهما، فالفدرالية الراهنة بالإقليم هي حصيلة التوافق الكردي العربي في حقبة معارضة نظام الديكتاتور المقبور، وميراث مؤتمرات المعارضة في لندن وبيروت وصلاح الدين، وتجليات حل القضية الكردية لأول مرة عبر الحوار والتوافق والاصطفاف ضد الدكتاتورية، ومن أجل الديمقراطية، صحيح أن الشريك العربي العراقي المعارض في تلك المؤتمرات أقر حق تقرير مصير الكرد بشكل مشروط، أي من دون الانفصال وإلزام الفدرالية،
ولكن صحيح أيضاً أن الظروف تغيرت وموازين القوى الكردية والعراقية اختلفت، والبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والتنموية في الإقليم أعيد ترسيخها وتطويرها، خاصة بتوافر النفط والغاز، كما أن الشراكة (الفدرالية) مع بغداد لم تعد تلبي طموحات شعب إقليم كردستان لأسباب شتى، من أبرزها توقف العملية السياسية الديمقراطية في العراق الاتحادي، وسيطرة الذهنية الطائفية في المركز، وعدم التزام الحكومات العراقية المتعاقبة بالعهود والوعود وبمواد الدستور؛ لذلك فإن الظرف مناسب لإجراء عملية استفتاء جديدة بعد مرور أكثر من عقدين على إعلان الفدرالية، وإبرام عقد جديد عبر الحوار والتوافق الوطني.
موقف "ب ك ك" ضد حق تقرير مصير شعب كردستان
التيار المغامر بالحركة الكردية الذي يقوده "ب ك ك" يقف بالضد من حق تقرير مصير شعب كردستان نظرياً، برفض المبدأ بالجملة والتفصيل، وإنكار الدولة القومية الكردية؛ حيث هناك على كوكبنا أكثر من 190 دولة قومية عضوة بهيئة الأمم المتحدة (مع موالاة قادة هذا الحزب لأنظمة في دول قومية متطرفة مثل إيران وسوريا)، واختراع مصطلحات لا سند قانوني أو تاريخي أو واقعي لها، مثل تعبير (الأمة الديمقراطية).
وعلى الصعيد العملي وعلى أرض الواقع، تورط التيار المغامر بقيادة "ب ك ك" مع توابعه وفروعه وتفريخاته في الشؤون الداخلية لإقليم كردستان العراق في الظروف الدقيقة الراهنة؛ حيث يتعاون مع أكثر مراكز القوى الشيعية العراقية تطرفاً وتعصباً، مثل الحشد الشعبي، وجماعة المالكي، للنيل من مكاسب شعب كردستان تارة بإثارة الفتن في سنجار، أو بالاصطفاف مع تيارات مغامرة كردية مرتبطة بأجهزة قاسم سليماني، لمعاداة رئاسة الإقليم وحكومته، وزرع العراقيل أمام إجراء عملية استفتاء تقرير المصير.
في الوقت الذي تقف فيه الجماهير الكردية في مختلف أجزاء كردستان وفي جميع أماكن تواجدها إلى جانب شعب كردستان العراق لتحقيق إرادته وتقرير مصيره، كما يراه مناسباً، والتي تعتبر الاستفتاء عرساً قومياً حضارياً ديمقراطياً، في الوقت ذاته، تقف أوساط "ب ك ك" القيادية في صف قوى الشر والعنصرية والعدوان، وتحيك الخطط والمؤامرات في الغرف المظلمة، وبالتعاون مع دوائر الاستخبارات الإقليمية في وضع القيود والضغوط التي تؤثر سلباً في تعبير الشعب عن إرادته، والنيل من إرادة شعب يكافح منذ أكثر من قرن للوصول إلى مثل هذا اليوم يحقق فيه إرادته بكل حرية.
قادة "ب ك ك" وخصوصاً القابعين في جبال قنديل يدفعون الأمور باتجاه التصعيد والمواجهة، وإجهاض الحل السلمي الذي يحقق مبدأ تقرير المصير بالتناغم والتعاون مع قوى وأنظمة إقليمية معادية في محور الممانعة بزعامة طهران ليس للحقوق بل حتى للوجود الكردي في كل من سوريا والعراق، وهذا الموقف الموتور المغامر من جانب جماعة قنديل ينبع من اعتبارين؛ الأول إرضاء أصحاب القرار في العواصم المحيطة المتواطئة معها، والثاني فرض سياستها بقوة السلاح وعبر ترهيب الشعب الكردي المسالم وفرض الإتاوات والتهديد بالتصفية والاعتقال والتهجير كما يجري منذ عقود تجاه كرد تركيا الذين نزح الملايين منهم نحو المدن التركية، ومنذ عدة سنوات، حيال الكرد السوريين الذين ترك نصفهم أرض الآباء والأجداد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.