عن ضرورة المصالحة “8”| عاش البلتاجي وعاش اللواء.. مات المجند وماتت أسماء‏

ماذا لو وضع هناك لواء بين خطر القتل مثلهم؟ ماذا لو كان أحدهم في دورية من الدوريات، هل ستكون ضعيفة ‏التأمين العددي والتسليحي كما نسمع عادةً؟ فوق ذلك، تجد من يبرر ما حدث في سيناء بما حدث في القاهرة، إذاً أخبر ذلك لأسر شهداء ‏إخواننا من الجيش والشرطة

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/05 الساعة 03:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/05 الساعة 03:15 بتوقيت غرينتش

أشاهد فيلم غاندي كثيراً، تعجبني سيرة الرجل كما تعجب الملايين من العالم، صحيح أني أفضل السيرة الذاتية المقروءة؛ لأنها أدق، فلا تكاد ‏تخلو أفلام السير الذاتية عن تعديل وحشو وحذف.

أحب أكثر -كغيري- المشاهد والمواقف التي يبدو فيها مثالياً إلى حد كبير، حتى ولو ‏كنت أعلم أنه لم ينجح في كل ما دعا له، لكن يكفيه أنه طَبَّق ما يدعو إليه على نفسه قبل الآخرين.

من هذه المشاهد حينما كان يحاول بعض ‏قادة كفاح الاستقلال الهندي إثناءه عن الصيام لوقف المظاهرات المنددة بإحدى المجازر التي قام بها الاحتلال البريطاني ضد السلميين العزل ‏من الهنود، والتي تحولت إلى ثورة، فاحتوى بعضها عنفاً أدى لقتل بعض الضباط.‏

‏ كان موقف غاندي صارماً، يجب أن يتوقف الناس عن ثورتهم؛ لأنها انحرفت عن السلمية المطلقة، وسيصوم حتى الموت إن لم يفعلوا! في ‏هذا المشهد يقول كلمته الشهيرة: "العين بالعين تجعل كل العالم أعمى"، قال له نهرو، الذي صار لاحقاً أول رئيس للهند المستقلة: إن تلك ‏كانت حادثة واحدة وليست عامة. كانت إجابة غاندي قوية، سريعة، وبديهية بالنسبة له: "أخبر ذلك لعائلات الجنود الذين قُتلوا". ‏

‏"أخبر ذلك لعائلات الجنود الذين قُتلوا"، أفكر في الأم والزوجة والأطفال والأب، ضحايا الحروب الذين لا يتم عدهم أبداً. أتراجع، هؤلاء هم ‏جنود الاحتلال البريطاني الذي ارتكب مجزرة بشرية لتوه، لكن هب أن أحداً من الجنود القتلى لم يكن مشتركاً في المجزرة؟ وهو ما يبدو ‏من السيناريو، أعود فتجذبني كلماته مرة أخرى، أصبح أكثر قناعة هذه المرة، لكنني سريعاً أنسى غاندي وأنسى الفيلم نفسه، ويشدني إليه ‏كالعادة هَمّ الوطن.‏

أصبح السؤال بديهياً، تطبيقه في مصر يصيبك بالجنون، أو يكشف كم الجنون من حولك، إذا كان بعض من في الاعتصامات قد تسلح، ‏فلماذا يُقتل الآخرون من الشباب والرجال العزل والنساء والأطفال؟ وإذا كانت الاعتصامات المُنْفَضَّة في القاهرة، فلماذا تُحرق الكنائس في ‏المحافظات ويغزو الإرهاب سيناء؟ وإذا كان الجميع قد فكر كالاحتلال البريطاني، فلماذا لم يوجد أبداً من يفكر كغاندي، أو قل، كإنسان ‏عاقل تبقى شيء من الإنسانية حياً داخله؟

يدعي بعضهم أن الدكتور البلتاجي متواطئ مع ما يحدث في سيناء بسبب تصريحه الكارثي الشهير، لكن الرجل نفى نفياً صريحاً وأوضح ‏سوء الفهم لتصريحه، ومع ذلك، فإننا لو افترضنا تعمده ما قال، فالذي قُتل في النهاية ليس هو، بل ابنته أسماء ذات السبعة عشر ربيعاً، ما ‏ذنب الفتاة لتُقتل؟ الأكثر إيلاماً أن هناك الكثير والكثير مثل أسماء، لكن بدون أب ذي تصريحات سياسية، بل بدون شأن سياسي أصلاً.

إذا ‏كنت ترى أن ذلك كان مجرد خطأ، وأن آلة الفض لم تتعمد قتلهم، أخبر ذلك لأسر اللاتي قتلن والذين قُتلوا دون أن يحملوا سلاحاً. ‏

‏ استراتيجية القيادات في سيناء أثبتت فشلها، والذي يدفع الثمن هم المجندون من العساكر والضباط حديثي التدريب الذين يُلقى بهم في ‏مواجهة الإرهاب المحترف.

صور الضباط صغار السن تفطر القلب من الحزن عليهم، لا تكاد تخلو كل تصريحات أراملهم (انظر كيف ‏تُسَمَّى من لا تتعدى الثلاثين أرملة) وخطيباتهم من الحديث عن خوف أزواجهن وخُطابهن من الموت وشكواهم من ضعف التأمين الذي ‏يبدو ساذجاً من وصفهم له.

ماذا لو وضع هناك لواء بين خطر القتل مثلهم؟ ماذا لو كان أحدهم في دورية من الدوريات، هل ستكون ضعيفة ‏التأمين العددي والتسليحي كما نسمع عادةً؟ فوق ذلك، تجد من يبرر ما حدث في سيناء بما حدث في القاهرة، إذاً أخبر ذلك لأسر شهداء ‏إخواننا من الجيش والشرطة هناك والذين كانوا يحرسون حدود الوطن ولم يشتركوا في أحداث الفض، ولا غيره.‏

فوق ذلك الألم آلام أخرى، وآلام سيناء لا تنتهي، باعتراف رئيس الجمهورية بنفسه، هناك ضحايا مدنيون نتيجة الحرب في سيناء، الواقع ‏يقول: اضرب ما تسمعه رسمياً في عشرة أضعاف لتتخيل الحجم الحقيقي للكارثة، صار الملعب واسعاً لتصفية الحسابات بين تجار السلاح ‏والمخدرات وبين خصومهم فَيَشُوا بهم لإلباسهم تهمة الإرهاب ويصبح الضحية مجرد عدد. إذا كنت ممن يرون أن ذلك مجرد نتاج سلبي ‏طبيعي للحرب خارج السيطرة وغير مقصود، ولو كان متوقعاً، أخبر ذلك لأسر إخواننا من شهداء النيران الصديقة.‏

‏"لو الجيش نزل الشارع، خلاص، خلاص، اتكلم عن مصر بعد 30 – 40 سنة، فما حدش يفكر يحل المسائل بالجيش. لو عندي خيار؛ إني ‏أدمر البلد، ولا أقف 15 ساعة قدام صندوق انتخابات؟ انتو ما تعرفوش يعني إيه جيش ينزل الشارع، ده خطر كبير جداً، ما نتعلمش من ‏التمن بعد ما نخش 10 سنين ونقول ياه يا ريتنا ما عملنا كده".

هذا الكلام حرفياً هو كلام الفريق عبد الفتاح السيسي في إحدى حفلات تخرج ‏رجال القوات المسلحة، لن أدخل في تفاصيل ما بعد ذلك؛ إذ لا أرى أحداً بريئاً من إجبار سفينتنا على التعرض لأمواج الفوضى بعرضها، ‏الجميع مدان بخرق السفينة يا سادة.‏

‏"كان واضحاً أن اللواء عبد المنعم واصل وقائد المدرع 25 يتوقعان وقوع كارثة بالنسبة لهذا اللواء وأنهما يريدان خلق المشكلات التي قد ‏تؤدي إلى منع قيامه بهذه العملية الانتحارية. لقد كنت أشعر في قرارة نفسي بصدق وإحساس كل كلمة يقولها اللواء عبد المنعم واصل، ولكن ‏مسؤوليتي في ذلك الوقت كانت تحتم عليَّ أن أعارض عبد المنعم واصل. كمبدأ عام يمكن للقادة أن يختلفوا عند إبداء وجهة نظرهم قبل اتخاذ ‏القرار، أما بمجرد اتخاذ القرار، فيجب أن يعمل كل منهم قدر طاقته لتنفيذه، سواء كان يتفق مع وجهة نظره أم لا، وقد تم اتخاذ القرار ولا ‏سبيل إلى التراجع الآن، وبعد حديث طويل مع عبد المنعم واصل قال لي بيأس شديد: "لاحول ولا قوة إلا بالله، سوف أقوم بتنفيذ هذه ‏الأوامر، ولكني أقولها مسبقاً، سوف يدمر هذا اللواء".

هكذا يوضح لنا الفريق سعد الدين الشاذلي في إحدى فقرات مذكراته شيئاً من عقيدة ‏الجيش في التعامل مع الأوامر، إذا أردت أن ترى الصورة كاملة، تخيل أنت بنفسك جنود وضباط هذا اللواء وكيف استجابوا للأوامر دون ‏تردد وهم يعلمون مصيرهم من التنفيذ، وقد حدث ما قاله اللواء واصل.‏

الجميع يعلم أن تزحزح هذه العقيدة شيئاً ما يعني انهيار المنظومة، ولا توجد شواذ لهذه القاعدة، الأوامر في ميدان الحروب على الحدود ‏هي الأوامر في الميادين العامة داخل المدن، لا يعقل أن أتلاعب بالسياسة بانياً أملاً أن تتحرك تلك العقيدة، هذا ضرب من الجنون أو على ‏أقل تقدير خطأ كبير نتيجة مفهوم فاسد. تعلمنا أن نتعامل دائماً مع المتغيرات لا الثوابت في المعادلات الرياضية، لا بد من سبل أخرى غير ‏أن أتخذ موقفاً وحدثاً يؤدي إلى إجبار الجنود على تنفيذ أوامر أقول بنفسي بعدها إنهم يعلمون أنها خطأ، يجب عليك أن تعفي نفسك من ‏مواجهتهم، وأن تعفيهم من تنفيذ ما لا يرغبون فيه، خاصة إذا كنت أنت من تزعم يقيناً أنهم لا يرغبون في ذلك النوع من المواجهة مع ‏المدنيين.‏

هذا الوطن لن يقوم إلا إذا توقف كل عن جنونه، ماذا يفيد التعنت في توفير الرعاية الطبية لمريض لوكيميا في العشرين من عمره، ثم ‏يُكتَشف بعد سبعة أشهر من ظهور الأعراض القاتلة أنها الليشمانيا! ما هذا المرض أصلاً؟ يتضح أخيراً أنه ينتشر في البيئات القذرة، ويبدو ‏أن ذلك وصف متواضع للسجون في مصر، هذه معاناة وقصة شخص واحد، تجد بعد ذلك من يربع في الحياة الغربية ينتقد من يدعو ‏للتصالح مع الدولة من أجل التخفيف عن هؤلاء تقديماً لإخراجهم، داعياً لهم أن يصبروا فالأمل قريب، كأن موتهم عنده أعز من أن يكتشف ‏أحد أنه على خطأ. ‏

قلنا مراراً: مَن مات قد مات مِن أجل صالح هذه البلدة، وإن صالح هذه البلدة الآن في التصالح، فلا يجب أن نسير على نفس النهج، ولكن ‏يجب أن نصل للنتيجة المرغوبة.‏
استقيموا يرحمكم الله، ارحمونا يرحمكم الله.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد