جاءت مراجعات جماعة الإخوان المسلمين في وقت أقل ما يوصف به أن "ميت"، فالحركة من الداخل في جدال ونقاش لا ينقطع، وشباب كثر انشقوا عنها ووصفوها بالحركة العجوز، وقيادات الداخل معظمها في السجون والمعتقلات تتهددهم أحكام الإعدام، والتصفيات على أشدها للكوادر الثورية التي ارتأت الدفع عن الحركة بالقوة، وانتخابات داخلية بين صفوف الحركة في الداخل والخارج، وجمهور الحركة أثقلتهم لقمة العيش والمطاردات الأمنية ولوائح الإرهاب، وحكومة الانقلاب لا يشغلها شاغل غير تصفية الحركة وإفنائها، والنظام العالمي الجديد على حافة من الجنون الترامبي لا مثيل له في تاريخ السياسة الدولية.
فألقت الجماعة بذكائها حجراً في بحر الأحداث الساكن لتحرك الماء الراكد، فتعود للساحة مرة أخرى بالسبق في تحليل المواقف واستخراج العِبر، ولتثبت أن خيوط العمل الثوري ما زالت بيدها رغم كل ما مضى، فحملت ورقة المراجعات التي طرحتها عنواناً جدلياً جديداً: "تقييمات ما قبل الرؤية.. إطلالة على الماضي"، وكأنها تريد أن تضع "علامة على المشككين في قدرة الجماعة" بأن كوادرها العاملة رغم كل ما حل بها قادرة على تقييم المواقف ووضع رؤى جديدة.
واستعرض المسطّرون للمراجعات أربعة محاور رئيسية هي: غياب ترتيب الأولويات في العمل العام وأثر ذلك على الثورة، والعلاقة مع الثورة، والعلاقة مع الدولة، والممارسة الحزبية لجماعة الإخوان المسلمين.
وهذه المحاور في حد ذاتها هي مدار النقاش والانشقاق والاتهام والأخذ والرد طوال السنوات الماضية، وهي تمثل كشف حساب لمسيرة الجماعة السابقة، وهذا بلا شك سيعطي المصداقية للصف الداخلي، ويسكت الكثير من الانتقادات من المنشقين عن الجماعة أو المناوئين لها ولو مؤقتاً، أو ستؤطر النقاشات في البنود المطروحة؛ فتخرج من حالة السفسطة إلى البناء المعرفي لرؤى تمثل في الحقيقة دراسة للبيئة الداخلية والخارجية للجماعة.
لكن بنود المراجعة رغم محاولتها استيعاب كل جوانب المشكلة، فإنها وقفت عند حد الوصف، كمنطلق يجعل الباحث والمهتم في انتظار أطروحة أخرى لعرض سيناريوهات الحلول، التي قد تحجب ولو إعلامياً؛ لما ستمثله من منطلق للتعامل مع الحركة من قِبل المناوئين لها.
وبكل جراءة تضمنت الورقة الأولى لملف المراجعة ما وصفته بغياب ترتيب أولويات الإخوان في العمل العام وانعكاس ذلك على الثورة، مشيرة إلى غياب العلاقات المتوازنة مع الكيانات المجتمعية الأخرى من الناحية التكاملية أو التنافسية أو الندية، وغياب مشروع سياسي متكامل للتغيير وإدارة الدولة، وغياب التعامل الأكاديمي المتخصص في إدارة وتحليل المعلومات.
ولعل أهم نقطة في هذه النقاط -في نظري- التي لو تم تداركها بالفعل لعادت الثورة إلى أدراجها هي: التعامل الأكاديمي المتخصص في إدارة الصراع وتحليل المعلومات، والتي لو تمت في ظل توافر الكوادر المتخصصة والنوعية في الجماعة، لأصبحت مراكز الجماعة البحثية عنصر قوة في اتخاذ القرار ليس للحركة نفسها؛ بل لكل الحركات الثورية.
أما الورقة الثانية فقد ناقشت علاقة الإخوان مع ثورة يناير/كانون الثاني، ملقية الضوء على عدة تقييمات تشير إلى: ضعف التصورات الفكرية والسياسية تجاه الثورة، واضطراب الخطاب الإعلامي قبل وفي أثناء وبعد الثورة، وعدم الاستفادة المثلى من الرموز الثورية وتقديم التنظيميين عليهم، وعدم الجاهزية السياسية لإدارة مرحلة الثورة الانتقالية، وعدم الانتباه لخطورة انفراد المجلس العسكري بوضع الأسس والأطر الحاكمة للمرحلة الانتقالية.
وتمثل هذه التقييمات نجاحاً جديداً وتوصيفاً دقيقاً لسبب الكارثة التي وقعت فيها ثورة 25 يناير/كانون الثاني من قِبل الفصيل الأقوى، ولم تكتفِ التقييمات بالواقع المعاصر للفكر الثوري للجماعة، بل امتدت للجرح القديم على مدار تاريخ الجماعة؛ لتؤكد ما طرحه شباب الجماعة من حصول انفصال بين فكر "حسن البنا" وواقع الممارسة من عهد عبد الناصر امتداداً لمبارك، وبلا مدارة وصفتها بأنها "آليات إصلاحية صرفة"، وأنها لعبت في ملعب النظام ولم تخرج عن الإطار المحدد لها، مشيرة إلى غباء تعامل رفاق الثورة مع الجماعة؛ مما ساعد كعامل تحفيز في الوصول إلى هذه النتائج الكارثية.
ولم تنس التقييمات دور الإعلام وضعف الطرح الإعلامي للجماعة، مع عدم الاستفادة من رموز الثورة الفاعلة، وربما يجيب هذا التقرير وبكل صراحة عن السؤال المطروح دائماً لماذا لم تستفِد الجماعة من رمز كحازم صلاح أبو إسماعيل؟.
ثم ختمت التقييم الثوري بوضع حد لتحميل الجماعة وحدها مسؤولية تمكن المجلس العسكري للثورة وتحميل الإخوان وحدهم هذا الأمر؛ لتحسم الجدل بقاعدة "كلنا مخطئون فلا نستثني أحداً".
وتناول المحور الثالث طبيعة العلاقة بين الإخوان والدولة في عدة نقاط هي: العمل السياسي تحت السقف والأفق الذي فرضته الدولة وعدم محاولة رفع سقف ذلك أو تجاوزه، والرضا بكون جماعة الإخوان ملفاً أمنياً طوال الوقت وعدم السعي لنقله إلى ملف سياسي، وغياب أي مؤشرات للطموح السياسي عملياً أو في مساحة تطوير الفكر السياسي أو التنظير له، وعدم انتهاز فرص الانفتاح والتمدد فيها، وعدم العمل الجاد لجعل حرمان منتسبي الإخوان من الوجود في المؤسسات العامة للدولة، كقضية رأي عام ضاغط أو مطلب عادل والاستسلام في ذلك للواقع.
وللأسف تناسى هذا الطرح أن الجماعة لم تكن بيدها القوة الفاعلة، وعند وصولها للسلطة لم تسع لتمتلك عنصر القوة الذي يفرض إرادتها السياسية، بل لم تستفِد من تجارب كحماس أو الثورة الإيرانية، وبقائها في ظل ملف أمني رغم إمكانية السيطرة على الملف لم تطرح في المراجعات، وهذا المسكوت عنه سيظل هو العامل الأساسي للفشل.
أما المحور الرابع والخاتمة فقد عرض لشكل علاقة جماعة الإخوان بذراعها السياسية حزب "الحرية والعدالة"، متطرقة إلى ما وصفته بـ"التداخل الوظيفي والمقاصدي بين الحزبي التنافسي والدعوي التنظيمي"، وتحدثت عن مدى جاهزية الجماعة السياسية، والتقصير في صناعة وتطوير القيادات والكوادر الحزبية، والتقصير في الإعداد لإدارة الدولة، والوقوع في مصيدة الأخونة.
ويحسب لهذا المحور في تفصيلاته التدقيق على الجانب التنظيري الفكري التربوي؛ إذ إن الفكر يسبق الفعل، ولا شك ولو للحظة أن القصور العملي نتاج قصور تربوي فكري لا بد من تداركه مستقبلاً لتطوير الفكر السياسي أو التنظير له في مجالات (التعلم والتدريب الأكاديمي والتأليف).
أخيراً فإن صدور هذه المراجعات هو في حد ذاته خطوة جريئة ومبادرة أثبتت بها الجماعة أنها ما زالت جماعة حية، وتمتلك القدرة على التغيير والتطوير، وفي نفس الوقت يطرح سؤال يصعب الإجابة عليه إلا من أصحاب المراجعات نفسها وهو ماذا بعد المراجعات؟ هل ستطرح الجماعة استراتيجية تغيير جديدة؟ أم سنقف عند حد وصف المشكلة؟ هل طرحت هذه المراجعات للنقاش المجتمعي أم لهدف سياسي؟ هل سنشهد تغييراً في البناء الفكري واللوائح التنظيمية أم سنكتفي بجلد الذات؟ ماذا بعد؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.