لم ولن ينسى التاريخ المعاصر صيحة "الله أكبر" التي انطلقت يوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، ذلك اليوم الذي سطَّر فيه المصريون ملحمة خالدة أذهلت الجنس البشري كله، فقد انتفض المارد المصري ليمحو عن جبين الأمة ملامحَ العار والنكبة التي وقعت في الخامس من يونيو/حزيران 1967.
فرحمكم الله يا جُند أكتوبر وتقبل منكم، ولكن اسمحوا لي أن أقول بأن البطولات والملاحم ليست حكراً على حاملي السلاح وباذلي الأرواح، فالبطولات متنوعة بتنوع مسالك الحياة وباختلاف المعايير في كل زمان.
اسمحوا لي يا جند أكتوبر أن أقول لكم معذرةً "فنحن أيضاً جيل من الأبطال" جيل خاض عظيم الملاحم، سواءً أكانت ملاحم الصبر والتحمل، أو ملاحم اليأس والاستسلام والهروب.
ووالله لا أدري أينا أفضل من الآخر، جيلنا أم جيلكم؟! رغم أنكم حملتم السلاح وبذلتم الأرواح وذلك ما يوحي بأفضليتكم علينا، ولكن كفاكم أنْ كان لكم قائد تلتفون حوله -بغض النظر عن السلبيات أو الإيجابيات- أما نحن فبرغم تضاعف أعدادنا فإن لنا "معيشةً ضنكاً" و"قيادةً فوضى".
يا جند أكتوبر.. معذرةً فنحن أيضاً أبطال، واسمحوا لي أن أسرد بعض ملامح ملاحمنا العظيمة التي قد لا يهتم بها المؤرخون ليدونوها في معاجم التاريخ:
– حينما تخطط مجموعة أو فصيل لاغتيال رئيس الجمهورية "وفقط" دون أنْ يخططوا وينسقوا لمرحلة ما بعد الاغتيال الذي نجحوا فيه، ودون أن يدرسوا العواقب البديهية، فكانت المحصلة من ذلك أنّ منهم من سُجِنَ ومنهم من أُعْدِم ومنهم من هاجر، وذلك بعد توريط الشعب في نائب الرئيس المُغتال الذي جاء شاهراً سلاح الانتقام في وجه الداخل، ورافعاً راية الاستسلام للخارج، فظل على عرش مصر ثلاثين سنة تجرع خلالها الشعب كؤوس العذاب، فإما أنه شعب تحمل أو استسلم، ومن ثم فنحن جيل من الأبطال.
– حينما تتآمر مافيا المخدرات من خلال أذرعها على وزير قيل عنه إنه أفضل مَن تَولى منصب وزير الداخلية في مصر، وبالفعل تنجح المؤامرة وتتم الإطاحة بالرجل من خلال حركة التمرد التي خرجت من معسكرات الأمن المركزي في فبراير/شباط 1986، وقد احتفلت تلك المافيا احتفالاً عظيماً في الليلة التي أُطيح فيها بقاهر المخدرات "اللواء أحمد رشدي" وأغرقت السوق بصنف من الحشيش أطلقوا عليه اسم "رشدي" (وذلك من كلام الوزير المقال عن تلك الأحداث).
رحل أحمد رشدي عن وزارة الداخلية ليتولاها بعده رجل قيل عنه إنه كان أسوأ وزير للداخلية في مصر، إنه اللواء زكي بدر، وذلك كان على مرأى ومسمع من الشعب الذي تحمله أو استسلم له، ومن ثم فنحن جيل من الأبطال.
– حينما يقوم أحد وزراء الزراعة ورفاقه "عمداً" بإدخال شحنات كبيرة من المبيدات المسرطنة إلى مصر، ما تسبب في تفشي أخطر الأمراض بين المصريين – كالسرطان والفشل الكلوي والكبدي وغير لك – ولا يقدَّمون "جميعهم" للمحاكمة لينالوا عقاباً يتساوى مع جرمهم الذي نغص حياة الملايين وقتلهم.
علم الشعب المصري بهذه الكارثة، وإما أنه صبر وتحمل أو أنه يئس واستسلم لذلك، ومن ثم فنحن جيل من الأبطال.
– حينما ينتفض الشعب المصري – في يناير/كانون الثاني 2011 – بمختلف شرائحه وأطيافه فيخرج إلى الشوارع والميادين ضد نظام مبارك، وبالفعل ينجح الشعب في ثورته، فيرحل مبارك ويوكل شؤون الدولة لجزء من نظامه الذي خرج الشعب عليه، وارتضى الجميع ذلك، وأُرجعه لسببين: الأول فقدان الثقة بين الفصائل وبعضها البعض، والثاني غياب القيادة الحكيمة التي يلتف حولها الناس، ولا أميل مطلقاً للرأي الذي يقول إن ذلك كان نتيجة انعدام الخبرة؛ "لأنه مجرد تبرير" فتحمل الشعب ذلك مضطراً، ومن ثم فنحن جيل من الأبطال.
– حينما ينزل الإسلاميون إلى الميادين اعتراضاً على إحدى مواد قانون مباشرة الحقوق السياسية، تلك المادة تنص على عدم السماح للأحزاب السياسية بالدفع بمرشحيها على ثلث مقاعد البرلمان المخصص للمستقلين، مطالبين بتعديلها حتى يتسنى التنافس عليها من قِبل الأحزاب، وبالفعل تتم الموافقة على المطلب، وتُجرى الانتخابات البرلمانية، ويتوالى انعقاد جلسات البرلمان الثوري، وفي ذات الوقت تُرفع الدعاوى لحله لما فيه من عوار قانوني؛ حيث تعرض المرشحون المستقلون للظلم نتيجة دفع الأحزاب -بما تمتلكه من إمكانيات- بمرشحين على الثلث الخاص بهم، ويصدر الحكم بحل البرلمان، فكان هذا الحكم بمثابة الضربة القاضية للثورة المصرية، وكعادة الشعب تحمل أو استسلم فحُقَّ له أن يكون من الأبطال.
– حينما يصل فصيل إلى الحكم ويضيع منه بسهولة منقطعة النظير -ولا يوجد حكم في الدنيا إلا وتُحاك له المؤامرات- فنفاجأ بشعب ترك مشكلته وتفرغ لتوزيع الاتهامات على بعضه البعض، فكل فصيل يرى غيره خائناً وجباناً وعميلاً ولا يستحق أن يتعاون معه، وكل فرد يرى في مخالِفه الجهل وعدم الفهم، ولم يسلم من ذلك واحد حتى من اعتزل.
ومن ثم معذرة يا جيل أكتوبر فنحن أيضاً جيل من الأبطال.
– حينما نُسْقِط رموز الأمة وحملة الشريعة وحراس العقيدة؛ لأنهم اجتهدوا فقالوا بخلاف قولنا، لينصرف الناس عنهم باحثين عن غذاء الروح في سموم الرويبضة، فنحن جيل من الأبطال.
– حينما يتضاعف عدد المرضى عن عدد الأسِرَّةِ في المستشفيات فيضطر المريض لأن يفترش الأرض ويلتحف السماء انتظاراً للموت، ولا يتحرك الأطباء على مستوى الجمهورية ليقفوا وقفة في وجه الدولة المسؤولة عن تفشي تلك الأمراض، وذلك كما يتحركون إذا وقع على أحدهم اعتداء، فنحن جيل من الأبطال.
– حينما يصيب الترهل كل المحاكم المصرية ويؤجل وصولُ الحق لأصحابه السنين ولا يتحرك القضاة والمحامون ليقفوا في وجه الدولة البيروقراطية من أجل نصرة المظلومين كما يقفون لأنفسهم إذا ما اعتدى عليهم أحد، فنحن جيل من الأبطال.
– حينما تمر جوار أي مديرية من مديريات (الأمن) على مستوى الجمهورية فينتابك شعور بالخوف ولست مذنباً في شيء غير أنك فقدت الثقة في كل ما له علاقة بالدولة نتيجة الممارسات.
حقيقةً يا جند أكتوبر نحن مثلكم جيل من الأبطال، أبطال بمعايير خاصة تتناسب مع هذا الزمان الذي نعيشه.
وأتذكر أبياتاً كتبتها قديماً عن حالنا:
بالدمعِ جودي يا بلادي واذرفيهْ
فعساه يلقى عاشقاً يهوى العبورَ فيصطفيهْ
أو فارساً فهمَ الرسالة فارتمى ليغوص فيهْ
ولتحذروا التجارَ
إن لكل عصرٍ بائعيهْ
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.