قالتها ببراءة: "تواصَلي معهم، فكلامك منمَّق وقد تتمكني من حل مشكلتي"، هي لم تكن تعلم حين هاتفتني أن للموضوع أبعاداً أكبر مما كانت تتخيل.. وللمصداقية، أنا لم تكن عندي أدنى فكرة عن الموضوع؛ مشكلتها كانت تكمن في فاتورة التدفئة المركزية للغاز، فقد وصلت إليها فاتورة شهر بمبلغ مقداره 184 ديناراً، ولا أعلم: أهو أمر مثير للسخرية أم للاشمئزاز؟! إنها لم تكن بمنزلها في ذلك الشهر سوى 6 أيام؛ بسبب سفرها للمملكة العربية السعودية لتقضي وأولادها إجازتهم بصحبة زوجها الذي يعمل ببلاد الحرمين.
تواصلتُ مع أحد موظفي الشركة؛ ظناً مني أن هناك لبساً بالموضوع أو أن من أخذ القراءة قد أخطأ في كتابة الرقم، فأخبرني بأن المقاول لم يقم بشراء "المبخر"، وأن هذا هو سبب ارتفاع فاتورتها، وهو أمر غير مقنع؛ فهي لم تقم باستخدام التدفئة المركزية سوى بضعة أيام، وحينما تواصلت مع صاحب العقار أخبرني بدوره بأن المبخر لا حاجة له إلا في حالات الانجماد.. عدت وتواصلت هذه المرة مع مدير الشركة المزودة، فأخذ يبرر ارتفاع الفاتورة لاحتمال استعمال أحدهم التدفئة دون علم صديقتي خلال غيابها.
وقد أبدع بسرد القصص والحكايات عن حالات مشابهة لما حدث معها، لدرجة أنني سرحت في الخيال وظننت أنني أستمع لـ"أبو عادل"، حكواتي باب الحارة؛ فتارة تراه يلقي باللوم على حارس الإسكان، وتارة يلقيه على أحد الأقارب.. طلبت منه قطع الشك باليقين وإرسال فنيين لمعاينة العداد؛ علّ أن يكون قد حلّ به خلل، فأخبرني بأنه "متأكد من سلامة العداد"، اقترحت عليه مقارنة الفاتورة بفاتورة العام الماضي للشهر نفسه، علماً بأنها كانت موجودة بمنزلها في تلك الفترة، و"المبخر" لم يكن موجوداً حينها أيضاً.
لكنه تذرع هذه المرة بأن ازدياد عدد السكان هو ما أثقل حمل الفاتورة، وعند مواجهته بأن عدد السكان لم يزدد، عزا الأمر إلى ارتفاع سعر الغاز ومن ثم برودة الطقس، وهو مناقض لما وردني من المختصين بمجال الطاقة من أن "استخدام الغاز المسال بالمنازل بنظام التدفئة المركزي في فصل الشتاء أرحم بكثير على جيوب المواطنين من السولار، حيث يبلغ حجم التوفير 40% مقارنة مع غيره".
طالبته بمقارنة فاتورة شهر بشهر، فرفض معللاً بأن انخفاض سعر الغاز سيؤدي إلى انخفاض الفاتورة! لكي لا أطيل الكلام، نقاشي معه كان بيزنطياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فقررت أن أطلب من وزارة الطاقة إرسال فنيين من طرفها لفحص العداد.
وهنا، كانت المفاجئة؛ إذ إنهم رفضوا التصريح بأي معلومات ورموا بالحِمل كاملاً على مؤسسة المواصفات والمقاييس.. وبعد زيارة المؤسسة، تبين لي أن المؤسسة تقوم بتدقيق التقارير المعتمدة دولياً والمرسلة لهم من الطرف الثالث المانح للجهاز وبناء عليه تعطي شهادة إقرار النوع، وهي وثيقة تشهد بحصول أداة القياس على إقرار النوع، لكنها لا توفر فحصاً للعداد ومعايرته حقيقةً على أرض الواقع، فبعد دخول العدادات للمملكة لا تجد هذه العدادات من يفحصها ويعايرها.
إن الجهاز غير متوافر لديهم؛ لأنه باهظ الثمن والموازنة المقدمة لهم من الحكومة تُقسم بناء على أولويات، والفئة المستخدمة للغاز ما زالت تعتبر أقلية، هم يفترضون أن الأجهزة معايَرة ومن المستبعد أن يحل بها خلل، لكنها في النهاية أجهزة وهي معرضة لأن يحدث بها عطل، وبالتأكيد تحتاج لمعايرة بين كل فينة وأخرى.
ومن هذه النقطة، يستطيع أي شخص التكهن بالإشكال الذي أنا بصدد التطرق إليه، ألا وهو ماذا بعد التركيب؟ إذ إنه لا يوجد رقابة على العدادات بعد تركيبها، فالمسؤولية تنتقل للشركة المزودة للغاز بناء على إعطائها الصلاحية بهذا الشأن من قِبل وزارة الطاقة، لينتقل المواطن إلى فصل جديد من مسرحية هزلية، يكتشف فيها أن بطلة هذا الفصل هي الشركة المزودة للغاز.
وهنا يجد نفسه أعزل لا يمتلك أي سلاح لمواجهة خصمه، فكيف له الانتصار وخصمه هو القاضي والحكم والجلاد في الوقت ذاته؟!، كيف سيستطيع المتضررون إثبات تظلماتهم وجهاز فحص عدادات الغاز غير موجود بالأردن! وفي غياب مرجعية لمؤسسة حكومية تكون بمثابة الرقيب والحكم؟ فلا وزارة الطاقة ولا مؤسسة حماية المستهلك ولا حتى مؤسسة المواصفات والمقاييس، تملك أن تكون رقيباً على هذه الممارسات؟
لطالما اعتقدت أن هذه المؤسسات وُضِعت لتنصفنا، فكيف لها أن تنصفنا وهي لا تمتلك أدنى حد من الإمكانات (جهاز فحص عدادات الغاز)! الأمر الذي يدعوني للتساؤل: ما سبب عدم توافره حتى الآن؟! من المؤكد أن الشركات وقّعت اتفاقية للتمديدات مع جهة مختصة وتم السماح لها بالتركيب والعمل بناء على هذه الاتفاقية، كيف حصلوا على التراخيص والموافقات من وزارة الطاقة ووزارة الصناعة والتجارة بوجود هذه الثغرة؟ سؤالي لدائرة مراقبة الشركات المستوردة والمصنعة محلياً: كيف منحت هذه التراخيص؟ وكيف تعمل هذه الشركات؟
ولأكون منصفة، فالمشكلة لا تنحصر فقط في العدادات؛ بل في العقود أيضاً، فجزء من اللوم يقع على عاتق صاحب الإسكان الذي وقَّع العقد مع الشركة دون أن يقرأ ما به، غير آبهٍ بطريقة احتساب الفاتورة والضغط الابتدائي، وهو ما يفترض أن يكون موجوداً بالعقد، ففي النهاية هو لن يدفع الفواتير عن المواطنين. وبالمناسبة، فلكل شركة معادلتها وضغطها الخاصان بها فالعقود غير خاضعة للرقابة، أستهجن وجود شركات لها نحو العشر سنوات غير خاضعة للرقابة حتى الآن!
أيُعقل عدم وجود جهة يحتكم إليها المواطن في حال تظلمه؟َ! أيُعقل ألا يكون هناك رقابة على الفواتير الصادرة من هذه الشركات طوال هذه الفترة؟! لطالما تغنيت بقضائنا النزيه العادل الذي يترفّع عن أي شبهات، لكن لو أراد المواطن التقدم بشكوى رسمية بحق الشركة المزودة، فكيف سيتعامل قضاؤنا مع هذه الشكوى؟! ومَن الطرف الثالث الذي سيقوم بفحص العدادات، وهذه العدادات لا يوجد لها فحص بالأردن؟!
هذا السؤال يحتاج لإعادة الحسابات، وأنا أنتظر بفارغ الصبر أن أجد مرجعية بخصوص العدادات في المستقبل القريب وأن يتم توحيد المعادلة والضغط؛ كي لا تختلف فاتورة المواطن النهائية من شركة لأخرى، أنا لن ألوم هذه الشركات في حال ثبت أنها تتلاعب بالفواتير؛ فمن أمن العقوبة أساء الأدب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.