لعل عام 1982 يعتبر أقسى الأعوام على الشتات الفلسطيني بعد عامي 1948 و1967.
فلم تكن قد مضت أسابيع على الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف عام 1982 واحتلالهم بيروت، حتى بدأت عملية إجلاء مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان على متن السفن باتجاه تونس واليمن.
ثم تلا ذلك بعدة أسابيع مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا التي كانت أفظع النتائج التي ترتبت على إزالة القوة الحامية للمدنيين الفلسطينيين في لبنان.
لكن كل تلك الأحزان لم تستطع أن تكسر من شوكة النضال الفلسطيني على الأصعدة كافة ابتداء بالكلمة، وانتهاء بالمقلاع والحجر، مروراً بالفن والشعر والنثر والموسيقى ورسم الكاريكاتير. لم يغب النضال عن المخيال الفلسطيني لحظة وبقيت خريطة فلسطين التاريخية، من النهر الى البحر ومن رأس الناقورة إلى العقبة، تحفر في ذاكرة الفلسطينيين اسم فلسطين كما يحفره الخنجر على الحور العتيق.
شارك الفلسطينيون بانتماءاتهم كافة في رحلة النضال تلك واعتبروها مسيرة حياة تكفي الإنسان شرفاً وتيهاً آنذاك أن يقول عشت لفلسطين.
لم يعب فلسطيني على آخر طريقة نضاله ما دام البوصلة كانت ذات اتجاه واحد قبلتها القدس.
في مساء يوم خريفي من عام 1982، كنت عائداً لمنزلي في دمشق حين صادفني زحام غريب عند باب مسرح الحمراء في شارع الصالحية التجاري الشهير وهو أمر لم يكن معتاداً آنذاك.
سألت عن السبب، فأجابني أحد الواقفين بأن هناك فرقة فلسطينية ستغني الليلة لفلسطين. لم أسأل عن الفرقة فلم أكن أملك تذكرة. لكن الفضول دفعني للدخول بعد وقوف طويل آخر الصف، وظننت أنني كنت آخر مشترٍ لآخر تذكرة، لأكتشف أن ليس هناك آخر تذكرة حين تغني فرقة العاشقين لفلسطين؛ فالكل سيدخل والمقاعد ستمتلئ وتمتلئ معها الصفوف بين المقاعد والصفوف أمام المقاعد والصفوف خلفها. لن يبقى مكان شاغر لنملة.
بدأت الفرقة التي كانت قد تأسست عام 1977 الغناء في تلك الليلة، الأغنية تلو الأغنية ولكل أغنية طعم، ولكل معزوفة لون، ولكل بيت شعر رائحة من سهول فلسطين وبحر عكا وغزة هاشم وسجاد الأقصى العتيق.
يومها، غنت الفرقة أغنيتها الشهيرة الخالدة "من سجن عكا طلعت جنازة"، فتحول المزاج كله إلى مزاج جنائزي حزين دامع وكأنك تمشي عام 1930 في جنازة أبطال ثورة البراق محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطار الزير؛ إذ تخرج من قلعة عكا وجنود بريطانيا العظمى يحيطون بها تهاب نفوسهم ذلك الشعب إذ يشيع أبطاله.
أما آخر الأغاني لتلك الليلة، فكانت الأغنية التي رسمت صمود المقاومة الفلسطينية أمام طائرات الـ"إف16" ودبابات الميركاڤا الإسرائيلية فتشعر وأنت تسمعها بأنك تنتقل من جبهة إلى أخرى تقاتل مع من قاتل وتصمد مع من صمد.
ألهبت تلك الأغنية الجمهور بشكل يعجز البيان عن وصفه، فقد انقلب المزاج الجنائزي فجأة إلى مزاج فدائي يحمل على كتفه البندقية، ترتفع وتنخفض مع كل كلمة من كلمات القصيدة الشعبية.
تحول الجمهور كله إلى لوحة فنية امتزجت مع الفرقة استحال معها التمييز بينهما. فالجميع في تلك اللحظة يعيش قصة صمود أسطورية لحركة تحرر وطنية أمام احتلال عنصري استيطاني.
قصة صمود ولو للدقائق القليلة التي ستستغرقها الأغنية. قصة صمود لا يريد أحد أن تنتهي بانتهاء تلك الدقائق، حتى إذا انتهت صاح الجمهور "ما صار ما صار، عيدها عيدها"، ويجد قائد الفرقة ذو الصوت الجهوري حسين المنذر "أبو علي" نفسه يشير إلى الفرقة أن مددوا زمن الصمود.
لم يسمح الشعب الفلسطيني للمأساة بأن تحرف مقاومته. لم يسمح للحزن بأن يصبح مقياساً عاماً تقاس به الوطنية. بقي للحزن مطرحه، لكن السمت العام للثورة تطور فأصبح سمتاً ملؤه الحياة والعنفوان. بقيت الدبكة الفلسطينية تدبك في الأعراس والاحتفالات وأيام النصر ولم يعب أحد على أولئك شيئاً. فالكل يعلم أن تكامل الصورة لا بد منه لفرض الرواية الفلسطينية على الرواية الإسرائيلية.
18 مارس/آذار 2017
خرج السوريون الأميركيون في مظاهرات بالعاصمة واشنطن في الذكرى السنوية السادسة لانطلاق الثورة السورية وخرج معهم لأول مرة أميركيون من الأجناس كافة بيضاً وسوداً وإسباناً، مسيحيين ويهوداً. وخرج معهم بعض الفلسطينيين ودبّكوا على ألحان الثورة الشعبية.
لكن هذه المرة خرج علينا أقوام يمسكون بدقة مقاييس الحزن والوطنية من خلف شاشات هواتفهم، فقاسوا حزن هؤلاء ووصلوا لنتيجة أن وطنيتهم صفر.
وكل عام ورواية النظام المستبد بخير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.