صعود اليمين المتطرف في عصر ترامب

صعود ترامب كظاهرة سياسية ووراءه تيارات اليمين المتطرف في الغرب تجسيد للحالة المرضية المزمنة في مجتمعات ما بعد الحداثة الغربية، وتعبير عن مدى الانحدار الأخلاقي الذي أصاب الحضارة الغربية

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/23 الساعة 04:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/23 الساعة 04:10 بتوقيت غرينتش

كانت سنة 2016 حافلة بالمفاجآت في مختلف المجالات، لكن لم يتوقع أحد أن يهتز العالم بمفاجأة كان بطلها الملياردير دونالد ترامب، الذي استطاع اكتساح الانتخابات الرئاسية في وقت كانت فيه كل التكهنات تذهب إلى استحالة تجاوزها الأدوار التمهيدية، بسبب سجل الرجل المليء بالفضائح الجنسية وافتقاره إلى الخبرة السياسية أمام منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.

وخلافاً لمن سبقه من الرؤساء الأميركيين شكَّل وصول ترامب إلى السلطة حدثاً مفصلياً في تاريخ السياسة الأميركية، ببرنامج ينضح بخطابات شعبوية اختار لها شعار "أميركا أولاً، دقت معها كل نواقيس الخطر في مختلف دوائر صنع القرار الأميركي، واستطاعت أن تقسم المجتمع الأميركي بين المعارض والمؤيد له، كاشفة بذلك مدى تنامي أفكار اليمين المتطرف في بلد ظل منذ لحظة تأسيسه رمزاً للحرية ومبادئ الديمقراطية.

واستند البرنامج الانتخابي لترامب على خطابات اليمين المتطرف مكرساً نفسه كرمز لها، وبالرغم من حملات التشهير الإعلامية التي واجهها من قبل، تشبث بنهجه السياسي حتى استطاع الوصول إلى سدة الرئاسة، وحينها شرع في تنفيذ تعهداته الرئيسية، دشنها بإصداره قرارات تنفيذية لا يزال صداها يتردد إلى حد الساعة بمنع المهاجرين القادمين من 6 دول إسلامية من دخول أراضي الولايات المتحدة؛ لكونهم تهديداً محتملاً للأمن القومي الأميركي.

أما بالنسبة للسياسة الخارجية فقد شكَّلت ارتداداً واضحاً عن الثوابت التي ميزت السياسة الأميركية؛ إذ تجسد طابع الانعزالية والانغلاق، كتيار ينتشر بسرعة في أوساط الحزب الجمهوري يؤمن أتباعه بأن الاستراتيجية الأميركية في القرن 21 لن تكون كسابقتها، فهذا البلد ينبغي أن يركز على قضاياه الداخلية أولاً، ولم يعد بإمكانه تحمل أعباء العالم وقضاياه الموروثة عن الحقبة الباردة.

وهو ما يفسر خطابات الازدراء التي وجهت إلى حلف شمال الأطلسي والتشكيك في جدواه بوصفها المنظمة التي عفا عليها الزمن، وبكون تمويلها يستنزف الاقتصاد الأميركي، وفي السياق نفسه تعهد بانتهاء الحماية المجانية للدول التي ظلت تحت حماية المظلة العسكرية، خاصة دول الخليج، مطالباً إياها بتسديد التكاليف المالية المستحقة عليها.

كما عمل على التقرب من العديد من الأنظمة السلطوية في العالم، كروسيا التي استفادت كثيراً من نجاحه في الوصول إلى منصب الرئاسة؛ لتتوسع في الشرق الأوسط، وزيادة نفوذها في الملف السوري مما جعل العلاقات بين الطرفين تتحسن على نحو واضح، على عكس ما كان عليه الأمر إبان الفترة الرئاسية لسلفه الديمقراطي أوباما.

هذه التحولات السياسية المتسارعة التي تشهدها الولايات المتحدة لا يمكن عزلها عن سياقها الدولي، لوجود رابط واضح بين انتخاب ترامب في الولايات المتحدة وصعود الأحزاب الممثلة لليمين المتطرف في أوروبا التي أجمعت على الترحيب بانتخابه، ومن أبرزها الجبهة الوطنية بفرنسا، وحزب الحرية اليميني في هولندا؛ حيث مثل لها بارقة أمل في الوصول إلى السلطة وتغيير موازين أوروبا، وهو الأمر الذي أكدته كل استطلاعات الرأي في العديد من الدول الأوروبية، مشيرة إلى تزايد شعبيتها بين أوساط الناخبين الأوروبيين.

لعل من أبرز عوامل نجاح الحملة الانتخابية التي يمكن استقراؤها من التحولات الهامة التي يشهدها المجتمع الأميركي، أجاد وصفها المفكر الشهير نعوم تشومسكي بالمجتمع المتعادي؛ حيث تنامت أفكار اليمين المتطرف المبنية على خطابات التحريض والكراهية للمهاجرين، داعية إلى تشديد القيود في استقبالهم وتحجيمهم باعتبارهم يداً عاملة رخيصة مزاحمة على فرص عمل أصبحت تتناقص يوماً بعد يوم بفعل الأزمة الاقتصادية التي لم يتعافَ منها الاقتصاد الأميركي.

ومن جهة أخرى، أصبح خطاب التخويف من خطر الأقليات العِرقية والدينية، خاصة المسلمين، كتهديد وجودي للنسيج الثقافي الغربي وسيلة لجذب الناخبين، بفعل خصوصيتهم الدينية وعاداتهم المخالفة للقيم الغربية، وكذلك ارتباط عدد منهم بالتيارات الأصولية، زاد من تكريس هذه النظرة استفحال الهجمات الإرهابية التي طالت العديد من الدول الأوروبية في الآونة الأخيرة، خاصة بفرنسا وألمانيا.

وأمام الظرفية الحالية التي يشهدها العالم استطاع تيار اليمين المتطرف أن يكرس نفسه كبديل سياسي يحظى بشعبية وقدرة خاصة على التأثير في شرائح واسعة في المجتمع الأميركي، وخاصة في أوساط الطبقات العاملة الأميركية المحبطة من إمكانية التغيير السياسي، بعد فشل النخبة السياسية في تحسين المستويات المعيشية وزيادة برامج الإنفاق الاجتماعي للقضاء على تفاوتات الطبقية؛ حيث تستحوذ طبقة الأثرياء التي تشكل نسبة 1% من السكان على ما يعادل 40% من الثروة الوطنية في بلد يعد الأعلى من حيث الناتج الإجمالي الخام في العالم.

إن هذا النجاح المفاجئ لهذه الأيديولوجية الفكرية بقيادة ترامب سيرخي بظلاله على المشهد العالمي؛ حيث كثيراً ما تعهد برغبته الدفينة في إعادة تخليقه وفق أسس جديدة، وهو ما يشير إلى أننا على أعتاب بزوغ عهد جديد سِمته الأساسية عودة عصر الأفكار القومية المتطرفة، ونهاية العولمة الليبرالية بإعلان إفلاسها المادي والأخلاقي على الرغم من أن الولايات المتحدة لعبت دوراً أساسياً في بلورتها، مما سيسهم في توتير العلاقات الدولية، واحتدام صراع الحضارات خاصة ضد العالم الإسلامي الذي يشكل المتضرر الأول، خاصة مع حربه المعلنة ضد كل تيارات الإسلام السياسي بما فيها المعتدلة التي وصلت إلى السلطة في بعض البلدان العربية، واضعاً إياها في سلة واحدة.

صعود ترامب كظاهرة سياسية ووراءه تيارات اليمين المتطرف في الغرب تجسيد للحالة المرضية المزمنة في مجتمعات ما بعد الحداثة الغربية، وتعبير عن مدى الانحدار الأخلاقي الذي أصاب الحضارة الغربية؛ حيث صناعة الخوف والشعور بفقدان الثقة، والتشكيك في القيم الليبرالية هي البضاعة الرائجة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد