السّياحة التونسية.. بقرة حاحا النّطّاحة

بل السياحة التونسيّة ساهمت في تكريس تقسيم البلاد تنمويّاً؛ لتزدهر سواحل البلاد وتنفصل عن عمقها وينحصر اهتمام الحكومات المتعاقبة على - تونس السّياحيّة - بتطوير البنى التحتيّة وإسداء المنح التشجيعيّة والإعفاء من الأداءات الضريبيّة

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/22 الساعة 02:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/22 الساعة 02:25 بتوقيت غرينتش

قد يقنعوننا بأنّ السّياحة رافد من روافد المال، وقد نسلّم بأنّها تشكّل باباً لإضفاء بعض الحركيّة في السّوق الاقتصاديّة، لكن ما يعرفه الخبراء ويقدّره العارفون أنّ هذه (النّشوة) الاقتصاديّة لها سلبيّات، ومضارّها أكثر من المنافع.

ولهذا سعت كثير من الدّول التي لها باع في السّياحة إلى خلق مشاريع موازية وخطط بديلة، ذلك لأنّ السّياحة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكثير من العوامل كالوضع الاقتصادي العالمي والسّياسي وحالة الأمن والاستقرار الدّاخلي للبلدان المضيفة والحروب والمضاربات التنافسيّة وغيرها.

ولقد دأبت تونس منذ الاستقلال على الترويج للسياحة والعزف على أوتار الضرورات الاقتصاديّة وحاجة البلاد لتوفير العملة الصّعبة، وغير ذلك من الحجج، لكن منذ الاستقلال أيضاً بقي الحال على ما هو عليه لوضعنا الاقتصادي الذي لم يشهد (الطفرة) الموعودة التي يبشّر لها دوماً المسوّقون للسياحة؛ بل السياحة التونسيّة ساهمت في تكريس تقسيم البلاد تنمويّاً؛ لتزدهر سواحل البلاد وتنفصل عن عمقها وينحصر اهتمام الحكومات المتعاقبة على – تونس السّياحيّة – بتطوير البنى التحتيّة وإسداء المنح التشجيعيّة والإعفاء من الأداءات الضريبيّة؛ بل التمتيع بكثير من الامتيازات كالتي تمتّع بها أصحاب النّزل بعد العمليّة الإرهابية في سوسة.. ويبقى داخل البلاد يعاني التهميش والفقر والبطالة والضّياع، وكثيراً من النّسيان.

السياحة ساهمت أيضاً في الاختلال الديموغرافي وهجرة الشباب من مواطنهم إلى أضواء المدن السّياحيّة، أملاً في تطليق الفقر وعيش الرّفاهية؛ ليحدث الفراغ في الدّاخل، ورفض العمل الفلاحي، مقابل بطالة تتزايد وتتفاقم داخل المدن، والتي تدفع غالباً إلى تغذية عالم الجريمة بكلّ أنواعها.

والأهم أنّ النّصيب الأوفر من عائدات السياحة حتماً يستقرّ في جيوب أباطرة رأس المال، ولا تنتفع البلاد إلا بنزر قليل مقابل توفير بنية تحتيّة وخدمات من الطراز الرفيع (لعيون السيّاح)، لا تتوفّر لكثير من المناطق، وقد يتبخّر هذا النّزر مع الامتيازات والتهرّبات الجبائيّة، ولسماسرة السّياحة ألف حيلة لعدم ضخّ مرابيحهم في الدّورة الاقتصاديّة، ولعلّهم وجدوا ضالّتهم في قانون أبريل/نيسان 72 الذي يمنحهم متّسعاً في إبقاء العملة الصعبة خارج البلاد.

السّياحة كرّست النفور لدى الشّباب من كلّ الأعمال اليدويّة والحرفيّة، وخصوصاً الفلاحية منها، صرفت الطاقات الشّابة عن الخلق والابتكار، وأغلقت كل العقول الطامحة إلى ثروة طائلة تأتي مع إحدى العجائز المتصابية التي تجود بها رياح السّياحة !

هذه هي السياحة في تونس، وهذا ما جنيناه منها طيلة العقود الماضية، ولن نجني أكثر من هذا، بلاد اختصروها في عنوان خاسر طيلة عقود من الزّمن، فخسرت العقول والسّواعد، وأهملت باقي المقدّرات، وعلى رأسها الفلاحة.

لنا من الأراضي ما ينبت (ذهباً)، ولنا من المياه ما يكفي لذلك، والعوامل المناخيّة أكثر من مساعدة، كما أنّه لنا من السّواعد المحالة قسراً على البطالة أكثر وأكثر، فقط تنقصنا الإرادة السّياسيّة التي أهملت طيلة العقود الماضية، وما زالت كلّ اهتمام بالفلاحة بكلّ قطاعاتها، واستهانت بالحوافز للاشتغال بها، ولم تولها المكانة التي تجب في مخطّطات التنمية، ولم ترصد ما يشجع على إحياء الأراضي واستصلاحها، حتى غدت الأراضي الخصبة والصّالحة بواراً، وجفّت الينابيع الطبيعيّة، كما صعب استجلاب المياه من باطن الأرض، ولم يبق قائماً من الفلاحة إلاّ بعض الغراسات والمنابت الفصليّة ذات المردود الربحي السّريع لا تفي بالاكتفاء، ولا تكوّن رصيداً فلاحياً مستقبليّاً واعداً.

الفلاحة موروث أسلافنا والعمق التاريخي في بلادنا الضّارب حتّى (مطمورة روما)، أمّا السّياحة فهي بقرة حاحا النطّاحة، حليبها يشفطه سماسرتها وأباطرتها، ولا يبقى للبلاد غير نطيحها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد