خربشات في ذكرى الثورة السورية

- "سيأتي الدور على سوريا".. قالها بصوتٍ خافت مع ضحكةٍ ماكرة أحدُ الزملاء.. وبردةٍ فعلٍ لا شعورية ضحكتْ وكان جوابي: - "سوريا بالذات لن تقوم فيها ثورة"

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/21 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/21 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش

مع كلّ ذكرى للثورة السورية.. أستعيدُ سنواتٍ مضَتْ وتحديداً أمام القاعة السادسة في قسم اللغة العربية بجامعةِ دمشق.

كنّا طلاب الدراساتِ العليا ننتظر محاضرتنا الثانية عن النقد العربي القديم في جوٍ يشوبُه الخوف والحذر.
فأحداثُ تونس ومصر تملأُ الشّاشات ولم يعدْ يخفى على أحد ما تفعلُه عدوى الأخبار، ولا مجالَ لتأييد ما يحدث أمام الجميع فَـ:
"للحيطان آذان" كما يُقال.

– "سيأتي الدور على سوريا"..
قالها بصوتٍ خافت مع ضحكةٍ ماكرة أحدُ الزملاء.. وبردةٍ فعلٍ لا شعورية ضحكتْ وكان جوابي:
– "سوريا بالذات لن تقوم فيها ثورة".
لإيماني أنَّ دولةً محكومة بقبضةِ الأسد على مدى أربعينَ عاماً لن يستطيع شعبها أن يثورَ ويكسرَ حاجز الخوف أبداً.
بثقةٍ أكبر كان ردُّه هذه المرة.. مراهناً على ذلك:
"سَتَريْن والأيام بيننا"!

وهذا ما حدثَ بالفعل.. ما هي إلاّ أيامٌ معدودات وقالَ الشّعب السوريّ كلمته.
بمكالمةٍ هاتفية صغيرة من صديقتي تتكلمُ فيها بجرأة وبدون خوف متحديةً "مخابرات" النظام قائلة:
"يسقط بشار الأسد"، كانتْ كفيلة لأصدقَ أنّ النظام السوريّ سقط فعلاً من قلوب الشّعب وعقولهم.
في كلّ عام وتحديداً في شهر مارس/آذار المبارك، تشاركُ زميلتي معنا عبارةَ أحلام مستغانمي الشهيرة التي تقول فيها:
"علينا أن نربي قلوبنا مع كلّ حب على توقع احتمالِ الفراق والتأقلم مع فكرته قبل التأقلم مع واقعه. ذلك أنّ في الفكرة يكمُن شقاؤُنا".
كانت تطلقُ عليها: "التعويذة"، وتنصحنا بامتثالها لأنّها وبعدَ فقدانِ حبيبها.. وجدتْ أن لا معنى لحياتها وأنّها للآن لم تستطع النهوض من تحتِ الرّكام الذي خلّفه غيابُهُ عنها.
هو الآن يرقدُ تحتَ التراب.. لا تعلمُ كيف مات.. وبأيّ طريقةٍ قُتِل.

جاءَها خبرُه بعد مدةٍ من نزوحها مع عائلتها إلى مكانٍ بعيد عن المكان الذي كانت تقيمُ فيه.
وجدوا جثّتهُ مشوهة.. آثارُ طلقاتِ الرّصاص تغطي صدرَه ورأسه، والدماءُ تملأُ المكان، كلّ شيءٍ حولَ جثته يوحي بالبشاعة.

جادلها يوماً قائلاً: "من غير المعقول أنْ يقتل السوريّ أخاه السوريّ".
صدَّقتْه.. فلم يسبقْ له أن كذبَ عليها.
أخبروها بعد استشهاده أنَّ لوالدها يداً في اقتحامِ مدينته، بحجة القضاء على الإرهابيين، ومن حينها وهي تنظرُ إليه على أنّه مجرم حرب.
لا تطيقُ الحديثَ معه ولا حتى سماعَ صوته..
والدها الآن برِجْلٍ واحدة.. بُتِرَتْ ساقه في إحدى المعارك مع الثوار ومع ذلك لم تُشفق عليه.
برّرَ لها موقفه ولم تقتنعْ؛ لأنها في الحقيقة كانتْ تخالفه في كلّ شيء، ولأنّها كانت ترى أنّ خسارتَها أكبر من ساقه تلك.

لا أتحسّر على "سوريا بعد الثورة" بقدْر تحسُّري على حجم الخسارات التي حَمَلها كلُّ واحدٍ منّا، والتي نرفضُ أن نقارنها بخسارة أيّ أحد آخر؛ لاقتناعنا أنّ وقع المآسي يختلفُ من قلبٍ لآخر.

– ماذا عن خسارةِ الأمهات اللّواتي فقدْنَ أبناءهنّ.. وبَدَتْ كلّ واحدةٍ منهنّ كجثةٍ تتحرّك وترتعدُ فرائصُها كلّما سمعتْ خبراً عن موتٍ أو فقدان، وهنَّ اللواتي كنَّ يجتنبْنَ متابعةَ الأخبار فأصبحْنَ شِبْهَ مُداومات عليها، ربّما تقعُ عينهنّ على طرفِ خيطٍ صغير يدلُّ على أبنائهنّ في زحمةِ يومهنّ الحزين!
– ماذا عن الجثث التي لمْ تُسلّم لذويها بعد؟!
– عن أحلام الإخوة بضمّ رُفاتِ إخوتهم والاطمئنان على أنّ أرواحهم ترقدُ الآن بسلام!
– عن الأصدقاءِ الذين اعتقدنا أنّ اختلاف آرائنا السياسيّ لن يغيّر من علاقتنا شيئاً، فأثبتوا لنا العكس وغادرونا عندَ أول نقاشٍ تصادَمْنا فيه معهم!
– عن الذينَ اختاروا الهجرة واللّجوء؛ لأنه لم يعُد بمقدورهم البقاء أكثر..
– عن الذينَ استغلوا الثورة فحققوا من ورائها أسماءَ ومناصبَ وثروات.
– عن الثكالى والأيتام والأرامل.
– عن تلكَ الزوجة التي انتظرتْ زوجها كثيراً ففاجأها بورقة الطلاق عند وصوله إلى الضفة الأخرى.
– عن ذلكَ الزوج الذي ظنَّ أنّ العِشْرة والحب لا يغيّرهما متاعُ الدنيا، ففاجأته زوجته بتركه، متجاوزةً كلّ السنين والذكريات.
– عن النقاء الذي كانَ بداخلناً جميلاً وأصبحَ مع الوقتِ مُشوّهاً.
– عن تلكَ الأماني بأن يعودَ الزمانُ للوراءِ قليلاً.. وتعودَ معه كلّ الذكريات الجميلة التي يرفضُ عقلُنا قبلَ قلبِنا محوَها وتجاوزها.
– عن الذكريات التي لا تزالُ تنخرُ في قلوبنا كلّما اشتدَّ بنا الحنين.
– عن الوجوهِ التي لم تُنسَ.. والعيونِ التي لن تُمحى.. عن الشوق للقلوب النقيّة البعيدة عنّا.. عن الجروح الخَجْلى التي تأبى أن يسمع بها أحد.. عن الخذلان الذي لا يُغتفر.

– عن الطرق التي مشيناها سويّة، عن الحاراتِ التي تشهدُ على وقْع خطواتنا، والأماكن التي مررنا بها وافتقدْناها، ظانينَ أننا سنعودُ لنمرّ من أمامها يوماً معاً، ولكنّنا لم نعُد!
– عن الوعودِ التي قطعناها بألاَّ نفترق، وإذْ بنا افترقنا عندَ أول اختبارٍ قاسٍ وضعتهُ الحياة أمامنا.
– عن الذين ظنّوا أنّ مثواهم الأخير سيكون في سوريا، وأنّ ترابها هو الذي سَيحتضنهم فكانتْ بلادُ الغربة قبراً لهم.
– عن سوريا..
التي لطالما أوجعَنا غيابُنا عنها كثيراً، فغدَوْنا يتامى بلا أم، بلا أب وبلا سَنَد، لا تُحصى الخساراتُ بسهولةٍ من بعدها، وحدَه مَن عاش فيها يعلمُ ذلك، ووحدَهُ مَن غادرها يعرفُ أنّه فقد كلّ شيء حتى وإنْ فتحتْ له الدنيا أبوابَها في مكانٍ آخر؛ لذلك دائماً ما أردد أنّ خساراتنا كبيرة، كبيرة جداً بحجمِ وطنٍ كسوريا، وطنٍ نعيشُ الآنَ على أطلاله، ونتحسّر على أيامه، ونتساءل عن تلكَ اللّعنة الكبيرة التي حلّتْ به.

كلّ ثورة ونحنُ نوثِّقُ خساراتِنا على ورقْ.. كلّ ثورة ونحنُ ننتظرُ المنقذَ لأرواحنا المسلوبة.. كل ثورة ونحنُ إليكِ يا سوريا راجعون.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد