اهتزّ القطار، وكشطت عجلاته السكة عائدةً إلى الحركة، يمر أمام ناظري أحداث سنة كاملة، ورحنا نتقدم صوب القاهرة متحركين بسرعة عدّاء نشيط، أطلق شخص في المقعد الذي خلفي زفرة انزعاج يائسة. إن قطار السابعة، القطار البطيء من مدينة بنها إلى القاهرة قادر على امتحان صبر أكثر المسافرين اعتياداً عليه، من المفترض أن تستغرق الرحلة خمساً وخمسين دقيقة، لكنها نادراً ما تكتفي بذلك، إن هذا المقطع من السكة قديم وبالٍ تعطّله مشاكل الإشارات وأشغال هندسية لا تنتهي.
مضى القطار قُدُماً، ثم مَرّ مهتزّاً بمستودعات ومصانع وخزانات مياه وأراضٍ زراعية وبيوت متواضعة على الطراز الفلاحي تُدير ظهورها إلى سكة القطار.
أسندت رأسي إلى نافذة العربة، ورحت أنظر إلى تلك البيوت تجري أمامي مثل صور متعاقبة في فيلم تمَّ تسريعه، أرى هذه البيوت كما لا يراها غيري؛ بل إن أصحابها أنفسهم لا يرونها من هذه الزاوية، ثمة شيء يريح النفس في رؤية أشخاص غرباء آمنين في بيوتهم.
أستطيع أن أشعر برفاق الرحلة المسافرين معي يتململون في مقاعدهم، يقلبون صفحات جرائدهم، ينقرون على شاشات حواسيبهم المحمولة، ترنح القطار وتمايل منعطفاً، ثم تباطأت حركته عند اقترابه من رصيف إحدى المحطات، حاولت ألا أرفع رأسي لأنظر، حاولت القراءة في رواية قد اصطحبتها معي، لكن الكلمات غامت أمام عيني، ولم يفلح شيء في إثارة اهتمامي، في رأسي، لا أزال قادراً على رؤية آلام سنة كاملة قد قضيتها في أداء الخدمة العسكرية.
الحرارة في ازدياد، صار الهواء ثقيلاً بما فيه من رطوبة، ليت السماء تمطر قليلاً، لكنها صافية إلى درجة شاحبة، زرقاء مائية اللون، أمسح العَرَق عن شفتي العليا، أتمنى لو أنني تذكرت شراء زجاجة ماء.
قميصي ضيق إلى حد مزعج، كانت أزراره ضاغطة على صدري، أشعر بحكة في حلقي وفي عيني، لا أريد أن تطول الرحلة، إنني تواق إلى الوصول إلى البيت، تواق إلى خلع ملابسي وإلى الاستحمام، تواق إلى أن أكون حيث لا ينظر أحد إليّ.
أنا لست الشاب الذي كنته من قبل، لم أعد مرغوباً، إنني منفر على نحو ما، ليس هذا لأن وزني قل، أو لأن وجهي شاحب نتيجة قلة الطعام وقلة النوم.. لا فالمسألة هي أن الناس كأنهم يستطيعون رؤية الخراب الذي أصابني، يستطيعون رؤيته في وجهي، في طريقة تصرفي، وفي حركتي، أكره نفسي لأنني أبكي، حالة تثير الرثاء، لكني أحس نفسي مرهقاً، مستنزفا؛ لأن الأسابيع القليلة الماضية كانت شديدة الوطأة عليَّ.
فكرت أن أنهي فقرة تأمل قاع أحزاني، أن أشارك في نزهة مع أصدقائي، أو أن أذهب حتى للسلام على أقاربي، لكنها لم تتركني أفعل أياً من هذا، ظهرت فعلاً، كما لو أنها القمر الذي يظهر في ليلة ظلماء فتدرك أنك في ليلة البدر، لكن سحباً سوداء ثقيلة كانت تحجبه فلم تتبين إذا كان غائباً أم فقط غائماً.
كانت أغنية "بروحي فتاة" بدأت في مخيلتي عندما رأيتها بثوبها الأسود، تدبدب برجليها وتلوح بكفيها ليتسع لها الطريق وتجلس في المقعد الذي بجانبي، لا أعرف على وجه الدقة أي شيء يجذبني فيها، فقط كلها جميلة.
ماذا أقولُ وأدَّعِي؟! ولها جمال باهر متكامل مُتلألِئ وضَّاء كانَ لوجهها نورٌ وليس كأيّ نورٍ نورها، مِن كفها اقترب الجمال، بسماتها إنْ قد بدتْ فكفيلة حتى تلوّن وجه يومٍ أسود.
لا، لن أنساق للحديث عن جمالها، نعم لقد رأيتها لأول وهلة، فذهبت روحي بلا عودة، لكني ذهبت أتلهى بما تبقى في طريق العودة، ربما لو نظرت إليها أكثر لاحترقت، لا يليق للشارب أن يفرغ الكأس في جوفه كالمغبون دفعة واحدة، إنما جمال الكأس في الرشفات رشفة رشفة.
ماذا أفعل الآن؟ أميل بعيني إلى شاشة هاتفها المحمول، فأستطيع الحصول على صفحتها في العالم الأزرق، أم أن أتجرأ وأتحجج بسؤالها عن أي شيء، فتفهم المغزى أو لا تفهم، فنبدأ في الحديث، لم أستطع أن أفعل أياً من هذا!
ترنح القطار وتمايل منعطفاً، ثم تباطأت حركته عند اقترابه من رصيف آخر محطة ونبضات قلبي كانت تتباطأ معه حتى كاد قلبي يتوقف خشيةً من تلك النظرة التي تختمر في نفسي، بألا أراها مرة أخرى مطلقاً، تسافر، تختفي، أو تنقطع القصة انقطاعاً لا رجعة فيه.
حتى لمحت كتاباً جامعياً ازداد حسنه في عيني لمجرد أن يدها تقتنيه حتى استطعت أن أعلم اسمها وكليتها من على الكتاب، انفلتت مني ابتسامة خافتة فقد تذكرت أن أحد أقاربي يدرس في نفس كليتها، حينئذ نسيت قاع أحزاني نسيت كل ما كنت أخشاه لم أعد أتذكر أي شيء سوى اسمها وكليتها.
وبعد أسابيع قليلة وقفت أمام مرآتي أتجهز حتى أذهب لأرى حسناً لم ترَه عيني إلا في القطار وعندما وصلت إلى بيتها دخلت عليَّ وكانت أولى كلماتي "أُحبُّكِ، تلكَ في لوحٍ محفوظ؛ مقدرةٌ يا قدري"؛ لأكمل حديثي "وماذا بعد؟! وحُبكِ في حَنايا مُهجَتي يمتد".
لا تتعجبوا.. نعم فقد أحببتها في زمن الكراهية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.