عندما غابت السياسة

دعوتنا لبعث السياسة من جديد وحضورها هي دعوة لحضور الشعوب في المعركة وعدم تغييبها بتغييب السياسة، وهو ما يتطلب التأكيد المستمر في خطابنا السياسي والإعلامي على أن صراعنا مع المنقلبين على السياسة واستحقاقاتها ليس صراعاً على كرسي السلطة، بل هو صراع من أجل العودة إلى الاحتكام إلى قواعد السياسة وأحكام الإرادة الشعبية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/15 الساعة 02:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/15 الساعة 02:49 بتوقيت غرينتش

حضور السياسة في أي مجتمع يعني حضور الحريات والشورى والرأي العام، والشفافية والمحاسبة، وحضور التفاوض وإدارة الاختلافات بالطرق السلمية والحوار في البرلمان والمنتديات.

حضور السياسة يعني حضور التنوع والتعدد والرأي والآراء الأُخرى على قدم المساواة.

حضور السياسة يعني حضور الشعوب والأمم وحسمها لأية صراعات ومنافسات بالاحتكام إلى الانتخابات والصناديق، وفي البرلمانات، وليس بالدبابات، وفي الزنازين والمعتقلات.

لماذا علينا أن نؤمن بالسياسة طريقاً ومنهاجاً لإدارة الاختلافات والنقاشات؟ لأننا نؤمن بالتعدد والتنوع الذي هو سُنة كونية وحقيقة موضوعية لا يمكن تجاوزها أو إلغاؤها؟ نؤمن بالسياسة؛ لأننا نؤمن بالحياة وحرمة مصادرتها لمجرد الاختلاف في الرأي السياسي أو حتى العقيدة الدينية.

نؤمن بالسياسة؛ لأننا نؤمن أن الحروب والصراعات الدموية لا تنجز حضارة ولا تحدث نهضة ولا تحقق تنمية بل تترك خراباً ودماراً يقضيان على الإنسان والبنيان والعمران.

ربما يكون من الواجب على قوى التغيير والإصلاح قبل الحديث عن حلول لواقع أصبح مفجعاً على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية أن توصف بدقة ما تمر به في هذه المرحلة؛ إذ إن توصيف الأزمة بدقة يساعد في تحديد مسارات الحل وأدواته، وبدون ذلك نظل كمن يستعمل دواء غير مناسب لمرضه فيصبح المرض مزمناً والعلة متأصلة، ويظن المريض ألا جدوى من العلاج وأن الحالة ميؤوس منها.

نستطيع القول بقدر كبير من الاطمئنان إن مشكلتنا تتمثل في غياب وموت السياسة، وهو ما يعني عدداً من الظواهر والأمور التي ترتبت على هذا الموت والتغييب للسياسة، وهو ما نحاول سرده في جمل تلخص الحال الذي وصلنا إليه.

عندما تغيب السياسة وتموت يصبح التدرج في التغيير سذاجة، وعدم استخدام القوة المسلحة غفلة، وتحييد الخصوم وعدم الحسم لعدم توفر أدواته فشلاً!

عندما تغيب السياسة يتصدر منطق القوة وفقط لحسم الصراع السياسي كحل واحد لا يجدي غيره!

عندما تغيب السياسة يحضر منطق الثأر والانتقام والقصاص والغضب والفجر في الخصومة!

بغياب السياسة تكثر الخلافات والانشقاقات والنزاعات وتقل التوافقات وتغيب التحالفات! فالانقسامات والصراعات داخل الكيانات والتجمعات السياسية والثورية هي عَرَض لمرض اسمه موت السياسة وتغييبها، والثورات نفسها حتى في مراحل عنفوانها هي عمل سياسي مدني بامتياز وليست عملاً تخريبياً أو إبادة للخصوم وتصفيراً للصراع، ومن ثم فإن موت السياسة يعني موت الشعوب وتغييبها من الصراع الذي هو بطبيعته مدني وسياسي.

عندما تغيب السياسة تغيب الحريات وتصادر الحقوق وتنتهك الحرمات والخصوصيات! عندما تغيب السياسة يغيب الحل السياسي التفاوضي الوسط المتدرج ويتصدر الحل المدني والعسكري الذي لا يعرف إلا المعارك الصفرية وإبادة الخصوم!

عندما تغيب السياسة الداعي إلى الحوار إرهابياً والحديث عن المصالحة رجس من عمل الشيطان؛ لأنه دعوة للتصالح مع الإرهاب والإرهابيين!

عندما تغيب السياسة يصبح الحديث عن الانتخابات والاحتكام إلى الصناديق نوعاً من الحديث في الممنوع ويصبح الحديث في الشأن العام تهديداً للأمن القومي والمصالح العليا، ويصبح تناول الحاكم مؤامرة على الوطن وإرهاباً دولياً وخيانة وطنية يجب التصدي لها بالتصفية والموت!

عندما تغيب السياسة يغيب الأمن المجتمعي والأمان الفردي والنفسي ويغيب الاقتصاد والتنمية السياسة والعدل الاجتماعي!

عندما تغيب السياسة يكون الإقصاء والتخوين والتكفير للخصوم ويسود منطق من ليس معي فهو متآمر خائن عميل!

عندما تغيب السياسة يغيب التحضر ويحضر التوحش فتكون التصفية للخصوم وتسود البلطجة وقطع الطرق!

عندما تغيب السياسة تغيب الرقابة الشعبية ويغيب البرلمان الحقيقي وتغيب المحاسبة فيسود الفساد والفسدة واللصوص والقتلة.

عندما تغيب السياسة يغيب التداول السلمي للسلطة ويسود منطق التأبيد وأحكام المؤبد على الخصوم السياسيين.

عندما تغيب السياسة تصبح الانتخابات مهددة لأمن المجتمعات وخروجاً على سياق التطور ويصبح انتخاب رئيس خطأ لا بد من تداركه بالانقلاب!

عندما تغيب السياسة تصبح السياسة وممارستها خروجاً على القانون وعلى الدولة وعلى الدين وتهديداً للأمن القومي وإرهاباً ودعوة لتقسيم المجتمعات والاحتراب الأهلي وخلخلة الاستقرار وتقويض السلام الاجتماعي.

عندما تغيب السياسة يغيب الرأي العام والنقاش العام والقطاع العام وينزوي الجميع إلى الشأن الخاص، ويصبح الحديث عن تعدد الزوجات أولى من الحديث عن تعدد الأحزاب.

من مصلحة القوى الوطنية الداعية إلى الإصلاح والتغيير جعل الصراع صراعاً سياسياً والحل سياسياً وعدم الانجرار إلى جعله صراعاً عسكرياً أو صفرياً، وتغليب منطق السياسية فكراً وخطاباً وأدوات؛ لأن منطق السياسة ومنطقتها هي المنطقة التي تكسب عليها قوى التغيير، وأي سحب وتوصيف للصراع على غير أرضية السياسة مُضر بالوطن كما هو مضر بالمواطن.

إن منطق السياسة هو منطق التعدد والتنوع والحلول السلمية والتفاوض، ومنطق السياسة يعني كذلك القبول بالهزيمة، ويعني كذلك وجود أحزاب سياسية وحلول سياسية وخطابات سياسية ونقاشات سياسية وكوادر وأدوات سياسية.

آن الأوان أن يعود الجميع إلى مربع السياسة ومنطقها وقواعدها وفلسفتها وأدواتها وأرضيتها؛ لأن الخروج من جغرافيا السياسة والانتخابات سيدخلنا إلى جغرافيا الدم والانقلابات وسيكون الخراب لمالطة وساكنيها.

إن على قوى التغيير والإصلاح أن تصغي لصوت السياسة ومنطقها، وتعيد رسم رؤاها وخططها وأدواتها على هذا المنطق والمنطلق، وعليها كذلك عدم الانجرار إلى أية مربعات أخرى لا تجيدها، وحتى استخدام القوة في التغيير يجب أن يظل محكوماً بمنطق السياسة وقواعدها بجعلها عملاً ضاغطاً من أجل الاستمرار على أرضية السياسة، وليس أرض الحرب والعمليات العسكرية.

دعوتنا لبعث السياسة من جديد وحضورها هي دعوة لحضور الشعوب في المعركة وعدم تغييبها بتغييب السياسة، وهو ما يتطلب التأكيد المستمر في خطابنا السياسي والإعلامي على أن صراعنا مع المنقلبين على السياسة واستحقاقاتها ليس صراعاً على كرسي السلطة، بل هو صراع من أجل العودة إلى الاحتكام إلى قواعد السياسة وأحكام الإرادة الشعبية.

وبجملة واحدة: عندما تحضر السياسة تحضر الشعوب، وتحضر الحرية، وتغيب الزنازين.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد