أعدَموا أخي حسين!

قصة حُسين مجرد قطرة مِن بحر، فالظلم لم يترك مدينة ولا شارعاً ولا بيتاً عراقياً إلا دخله وأحدث فيه ما أحدث، وهذا بالتأكيد أمرٌ مؤلم، لكن الأشدّ إيلاماً هو أنّ هذا الظلم، بأشكاله وألوانه المتعددة، على بشاعته، تحوّل إلى ظاهرة طبيعية ألِفها الناس وتعايشوا معها، لكثرة مخالطتهم له

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/12 الساعة 01:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/12 الساعة 01:22 بتوقيت غرينتش

قبل أعوامٍ فقط؛ كان مسؤولونا ومثقفونا وإعلاميونا وواعظونا، حتى البسطاء من قومنا، يتحدّثون عن قسوة الصهاينة ومدى عدوانيتهم تجاه إخواننا في فلسطين؛ من اغتصابٍ للأرضِ وقتلٍ وتهجيرٍ للبشر، وهدمٍ للحجر، ولم يكن هناك منبرُ جُمُعَة أو تجمّعٍ جماهيريّ، أو حفلٍ عابرٍ، إلا وكنّا نسمع فيه عن بشاعة ما يرتكبه "الكفّار" من جرائم بحق العرب والمسلمين في بقاع كثيرة من هذا العالم المجنون والمرعب.

اليوم، تبدّلت الصورة، لم يعد هناك من يتذكّر أيقونة انتفاضة الأقصى محمد الدرّة، ولا مذبحة الحرم الإبراهيمي، أو قتلى صبرا وشاتيلا ولا مخيم جنين، فقد تبيّن أنّ مِن بني جلدتنا مَن هُم أكثر إجراماً وبشاعةً، ليس فقط من الصهاينة؛ وإنما من الوحوش الكاسرة نفسها؛ بل واتضح أنهم يمتلكون أساليب مبتكرة في الإجرام نافسوا فيها النازية!

وأنتَ تسير في طرقاتِ العراق وأحيائه وأزقّته، وتتأمّل وتتدبّر فيما يحصل فيها، لا تملك إلا أن تردّد مفجوعاً "الحمد لله على نعمة يوم القيامة"، يومَ نحتكمُ فيه للعدل، ولا يُظلمُ فيه أحد؛ وإنْ كان مثقال حبّة من خردل.. تَعِبَ الناس في هذا البلد الذبيح مِن الفُجْرِ في الشّر والإيغال في الظُلم الذي بلغ منهم مبلغاً عظيماً، حتى غدا العقل عاجزاً عن استيعابه، ظلمٌ في كل شيء؛ في معاملة وطبقية ولونٍ ودِينٍ ومذهبية وعشائرية، ومن هذا الإجرام ما يحصل تحت يافطة رسمية، ومنه ما يُرتَكبُ باسم الله أو باسم الحُسين.

أينما توجهت ببصرك تقع عيناك على جريمة ما، تكبيرٌ على الضحايا قبل ذبحهم وهم يلهجون بالشهادتين، وفصل للرؤوس عن الأجساد وتحويلها إلى كرات يتسلى ذبّاحوها بركلها بعد تعب "الجهاد المقدّس"، ومثاقب كهربائية تخترق رؤوس وصدور مُختَطَفين أبرياء، وأكلٌ لأكباد وقلوب الضحايا، وذبحٌ للأسرى كما تُذبح الخراف، واغتصابٌ للرجال والنساء في السجون السرية والعلنية، وتقطيعٌ لأجساد الضحايا بالسكاكين، وهكذا؛ كلما تراخت قبضة الدولة؛ خرجت من دواخل الكثيرين وحوشٌ تنهش كلّ حَي.

قبل فترة قصيرة؛ وأنا أسير في إقليم كردستان العراق -الذي لجأتْ إليه أعداد هائلة من النازحين؛ هربوا من مناطقهم الملتهبة عسكرياً- رأيت شخصاً في عقده الرابع من العُمُر، وقد تجلّى الحزن على ملامحه، دفعني الفضول إليه دفعاً، فاقتربت منه، بادرته بالسلام وتبادلنا أطراف الحديث كشخصين يشتركان في ألم هجر الديار قسراً، ظننت أنه في ضائقة مالية أو شيء من هذا القبيل، سألته عن سبب الحزن الذي أثخنَ في ملامحه؟ فأجاب باكياً: "أعدَموا أخي حُسين"!

يقول لقين الشمري والعبرات تعصره، والآهات الطويلة تخنقه: "غادَرَنا أخي الأصغر حسين قبل مدة لزيارة أقاربنا في العاصمة بغداد، فانقطعت أخباره على مشارفها، وبعد جهدٍ كبير وبحث استمرّ أكثر من شهر؛ شَمِلَ حتى ثلاجات الموتى، عرفنا أنه أُوقِفَ في إحدى السيطرات الأمنية على تخوم العاصمة، ثم اقتِيدَ إلى مركز احتجاز أمني هناك، وعلمنا أنهم اتهموه بالمشاركة في مجزرة سبايكر الشهيرة والتي حدثت بمدينة تكريت في يونيو/حزيران 2014، مع أنه لم يرَ تكريت في حياته!".

بكى قليلاً ثم تابع كلامه: "وكّلنا محامياً وزوّدناه بالأدلة التي تُثبت أن حسين كان مقيماً بمدينة السليمانية وقت حدوث المجزرة، بضمنها أدلة جلبناها من شرطة المدينة، ووَعَدَنا المحامي باستئناف حكم الإعدام الصادر بحق أخي، ثم بشّرنا بعدها بأن الحُكم قد نُقض وستُعاد محاكمته، وبينما نحن بانتظار حكم البراءة؛ رنّ علينا هاتف يُبلغنا أن حُسين قد أُعدم، ويطلب منّا الحضور لتسلُّم جثمانه.. هذه كل الحكاية!".

نعم، هكذا أُعدم حُسين، أُخِذَ من الشارع إلى حبل المشنقة، ولم تشفع له أدلة براءته، ولا انتقادات منظمة العفو الدولية على لسان كبيرة مستشاري الأزمات فيها (دوناتيلا ريفيرا)، والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، كلاهما هاجم حملات الإعدام التي أعقبت مجزرة سبايكر، وقالتا إنه "ربما كان مِن بين مَن جرى إعدامهم أبرياء، أو أنه تم انتزاع اعترافات منهم بالقوة".

قصة حُسين مجرد قطرة مِن بحر، فالظلم لم يترك مدينة ولا شارعاً ولا بيتاً عراقياً إلا دخله وأحدث فيه ما أحدث، وهذا بالتأكيد أمرٌ مؤلم، لكن الأشدّ إيلاماً هو أنّ هذا الظلم، بأشكاله وألوانه المتعددة، على بشاعته، تحوّل إلى ظاهرة طبيعية ألِفها الناس وتعايشوا معها، لكثرة مخالطتهم له، فأضحى لا يجادل فيه أو يستنكره أحد؛ بل إنّه يوجد بين ظهرانينا اليوم مَن يعشقه ويمجدّ رموزه.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد