تحتاج الجرائم التي تتم بحق المصريين الأقباط في سيناء ليس فقط إلى الإدانة والشجب أو تقديم العون للنازحين داخل وطنهم، وإنما أيضاً تتطلب البحث عن الأسباب والأوضاع التي هيَّأت المجال العام في مصر لهذه الجرائم، وكذلك تحديد المشكلة الأم التي نتجت عنها بقية المشكلات والأزمات.
"1"
نعم هناك مشكلة تطرّف ومتطرفين في مصر وفي كل مكان، وهناك ثقافة إقصائية ترى الأمور باللونَين الأبيض والأسود، وهناك تعليم ضعيف للغاية يُخرج أجيالاً من أحاديي التفكير، وهناك إعلام منفلت يزرع كل القيم الهدامة ويهدم كل قيم الوطنية والانتماء، وهناك انحلال أخلاقي ومشكلات اجتماعية ونفسية بالجملة، وهناك مؤسسات دينية ضعيفة ومسيطر عليها من السلطة، وكنيسة مسيَّسة تعمل كأنها دولة داخل دولة.
وهناك اختراق خارجي واضح أكدته تصريحات مسؤولين صهاينة عدة مرات دون أن ينفيها أو حتى يعلّق عليها مسؤول واحد، أهمها تصريح الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ونشرته صحف القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2010، وجاء فيه: "لقد تطور العمل في مصر حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979 (عام توقيع صلح السادات مع الصهاينة)، فقد أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً ومنقسمة إلى أكثر من شطر، لتعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، ولكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسني مبارك عن معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في هذا البلد".
"2"
لكن كل ما سبق أعراض لمرض آخر، أو نتائج لسبب أهم يمثل أصل كل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والاختراقات الخارجية، هذا المرض أو السبب هو طبيعة السلطة الحاكمة أو طبيعة النظام السياسي الذي يقوم على الاستبداد وإقصاء المخالفين في الرأي، وقمع الحريات وتأميم السياسة، وحماية الفساد، ووضع منظومة قانونية ودستورية مهترئة، وغياب أي معايير للثواب والعقاب، وتقنين الاستثناءات والامتيازات، وخلق وظائف طبقية وطائفية، وسحق كرامة الإنسان، وضياع كل قيم الشفافية والعدالة والمحاسبة، والسيطرة على مؤسسات الدولة وتسييسها وتوظيفها في خدمة بقاء هذا النظام، وإهمال التعليم والثقافة، والسيطرة على الإعلام وتسليطه على الناس لخدمة هدف استمرار الوضع الراهن وتبريره.
والأخطر من كل ذلك استخفاف النظام وأتباعه بكل التداعيات السلبية لهذا النمط من الحكم على المجتمع بقيمه ومؤسساته وقواه.
هذا النمط من السلطة هو المسؤول الأول عن المشكلات الطائفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية وليس العكس، هو المسؤول عن غلق كل منافذ المشاركة السياسية، وعن إيجاد أجهزة أمنية منفلتة وغير خاضعة لأي قانون أو معايير للضبط أو مراقبة الأداء، وعن الفشل في إدارة الاقتصاد والتفريط في الموارد والثروات الاقتصادية.
وهذا النمط من السلطة هو الذي يعمل على تطبيع "اختراق القانون" وجعله أمراً عادياً في نظر الكثير من المصريين، وأوجد قططاً سماناً في كل جهاز ومؤسسة بالدولة.
هذا النمط من السلطة هو الذي أوجد مغالطات كبرى، صار قطاع من المدنيين والعسكريين على قناعة تامة بها، وهي أن "الاستقرار غير ممكن مع الحريات"، وأنه "لا يمكن حكم الشعب إلا بالقوة"، وأنه "لا بديل لهذا النظام إلا الفوضى"؛ بل وتحميل الشعب مسؤولية كل المشكلات التي يعاني منها.
وهذا النمط هو الذي سمح لدوائر أجنبية باختراق أمننا القومي، وسمح لها باستخدام البعض في الداخل والخارج لتحقيق مصالح تلك الدوائر، وعلى رأسها إنهاك مصر وإشغالها بقضايا محلية وبفتنة طائفية تمنعها من استعادة دورها الحضاري في المنطقة.
لم يولد الناس ومعهم كل هذه الآفات، ولم توجد المجتمعات والدول وهي تعاني من كل هذه المشكلات. إن الآفات والمشكلات نتاج أنظمة استبدت وسياسات فشلت في معالجة التحديات وخلق الفرص وتغيير الواقع.
"3"
لن نضع أقدامنا على الطريق الصحيح لمعالجة كل هذه الأمور إلا بإدراك أربعة أمور على الأقل:
الأول: إدراك المشكلة السياسية الأم، مشكلة طبيعة السلطة القائمة وضرورة تغييرها إلى النمط الأكثر انتشاراً اليوم، والقائم على تمكين الشعب وترسيخ دولة القانون والمؤسسات، والمشاركة السياسية، والمحاسبة والشفافية، والرقابة.
الثاني: ترسيخ هذا النوع من الحكم القائم على تمكين الشعب والقانون والمشاركة والشفافية لن يكون على حساب الأمن والاستقرار، فعلى العكس تماماً تحت هذا النمط من الحكم ستقوم الأجهزة الأمنية والمخابراتية والعسكرية بأدوارها الحقيقية في حفظ الأمن في الداخل والخارج طبقاً لمعايير قانونية ومهنية ومؤسسية وتحت رقابة من مؤسسات رقابة داخلية وشعبية.
الثالث: إدراك الناس أهمية وحتمية التضامن المشترك من الجميع في كافة الانتهاكات، والتخلي عن المعايير المزدوجة في النظر إلى قضايا الدم وانتهاكات حقوق الإنسان، وكشف استراتيجية الأنظمة المستبدة في التعامل مع المجتمع كجزر منعزلة عن بعضها البعض، وتجزئة القضايا وإلهاء كل قطاع بمشاكله الخاصة، والتظاهر بمعالجة كل قضية على حدة، وتخريب أي طرق للتضامن المشترك أو معرفة أصل المشكلات.
يبدأ التغيير الحقيقي والشامل في مصر عندما يحتج الإسلاميون على مقتل الأقباط، ويحتج الأقباط على اعتقال عشرات الآلاف من الإسلاميين، وقتل الآلاف منهم في الميادين، ويبدأ أيضاً -كما كتبت سابقاً- عندما تحتج نقابة الأطباء على مقتل أحد العمال في المحاجر، وعندما ينتفض القضاة غضباً من انتهاكات الشرطة في الجامعات، وعندما يضرب أساتذة الجامعات احتجاجاً على قمع العمال، وعندما تتضامن الصحافة مع قمع حرية الرأي في المدارس والجامعات، وعندما يعتصم الطلاب والعمال احتجاجاً على إهانة طبيب أو قاضٍ أو صحفي.
الرابع: إن سكوت غالبية المصريين ومعظم المثقفين عن أصل الداء، أو تبريرهم له، أو ترويجهم استحالة تغيير الواقع يساعد في الحقيقة على استمرار هذه الأوضاع ويطيل عمر الظلم والفساد ويرفع ثمن تغييره الحتمي في المستقبل.
إن معالجة المرض لا تكون أبداً بمعالجة بعض الأعراض الجانبية وتجاهل أصل الداء الذي هو طبيعة السلطة القائمة على الاستبداد والفساد والإقصاء والتبعية. حدث هذا عندنا في السابق في فترات مختلفة من تاريخنا، فتقدمت الحركة الوطنية للأمام عندما طالبت بمطالب وطنية جامعة هي الاستقلال الوطني والدستور الديمقراطي قبل 1952، حتى وصلنا إلى ثورة عارمة في 25 يناير/كانون الثاني بمطالبها العادلة في الكرامة والحرية والعدالة، وسيستمر الشعب في نضاله حتى ينتزع هذه الحقوق وينقذ بلاده ومؤسساتها وقواها الحية ويقيم دولة القانون والعدل.
* نُشرت في مصر العربية بتاريخ 6 مارس/آذار 2013.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.