اختلف الناس حول عدد المحتشدين في آخر مرة تمكن فيها الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح من جمع أنصارٍ له في ميدان السبعين بصنعاء، أنصار صالح قالوا إنهم جاوزا المليونين، وخصومه ادعوا أنهم لم يتجاوزوا مئات الألوف، فإذا أخذنا أقل التقديرات في الاعتبار، وسلّمنا أن الحشد لم يتجاوز نصف المليون، فكل فرد من هؤلاء يمثل عائلة، قد يتجاوز عدد أفرادها العشرة (العائلة في اليمن تتجاوز الأب والأم والإخوة إلى أبناء العمومة)، إن لم نقل إنه يمثل حارة في مدينة أو حياً في قرية، وبهذا يصل تقدير أنصار صالح لخمسة ملايين على أقل التقديرات إنصافاً وحيادية، هذا حجم التأييد في نطاق جغرافي لا يتجاوز تعداد سكانه نصف تعداد سكان الجمهورية اليمنية، الذي يزيد قليلاً على 24 مليوناً، بحسب آخر التقديرات، ناهيك عن مناطق أخرى لا يتمكن أنصاره فيها من الاحتشاد.
هذا الحشد ما زال يعتقد أن صالح هو الرجل الأمثل لحكم اليمن، بل لقيادة المنطقة العربية، كما يشطح عدد غير قليل من البسطاء الذين يهيمون بصالح ونظامه، هذا حجم تأييد رجل حكم البلاد لثُلث قرن، هوى فيه سعر الصرف الأجنبي من 4 ريالات للدولار يوم اعتلائه كرسي الحكم إلى 240 ريالاً للدولار يوم توقيع المبادرة التي تنازل بموجبها عن السلطة، كما انحدر في فترة حكمه أداء المؤسسات الخدمية إلى الحضيض.
رجل لم يحقق أي تنمية أو يمتلك رؤية سياسية غير الاستمرار في الحكم إلى نهاية حياته، ثم توريثه لابنه، رجل أوصل اليمن إلى حرب أهلية وحرب مع الإقليم شاركت فيها أطراف دولية بشكل غير مباشر، وأخرى توشك أن تنخرط في الحرب بشكل مباشر.
رجل وزع موارد البلاد بين أرصدة شخصية وهبات للمحسوبين وإنفاق على سلاح وذخيرة يجري تدميرهما الآن بأيدي الدول التي كانت تُعينه على سرقة موارد بلاده بالتغطية على السرقة بالمنح والمشاريع والودائع والقروض، هذا فضلاً عن أن كثيراً من خصوم صالح يؤيدون أشخاصاً أو جماعات لا تختلف كثيراً عن صالح، بل إن معظمهم خدم نظام صالح بإخلاص طيلة عقود.
فإذا كان هذا حجم أنصار نظام فاسد، فأين الجماهير الراغبة في التغيير؟ هل المجتمع الذي أفرز صالح وفِرَق إدارته المتعاقبة في فترة حكمه؟ هل هذا المجتمع مختلف عنه وعن نظامه السياسي؟ البديهي أن الانسجام بين المجتمع والنظام الحاكم يعني فيما يعني أن هناك توافقاً – إن لم يكن تطابقاً – في القِيَم.
فلا يمكن أن يُظْهِر شعبٌ تأييداً بهذا الحجم لنظام يتناقض معه في القِيَم؛ لأن تباين القِيَم سيدفع بالنظام إلى القمع لفرض قِيَمه، والقمع يؤدي لنقمة الجماهير، وهو ما لا يبرر العاطفة المشبوبة التي يبديها قطاع واسع من اليمنيين تجاه جلادهم الذي لم يسلبهم اللقمة والكرامة فحسب؛ بل سلبهم حتى مشاعر الندم على فقدانهما، على حد تعبير المنفلوطي!
إذاً فهناك وجاهة لطرح يُصرّ على أن النظام السياسي هو ابن مجتمعه، والحكومات ليست غير إفراز طبيعي للشعوب التي تنتمي إليها، فالحكومة التي تغضّ الطرْف عن الرشوة وتُسهّل تعاطيها لا تفعل هذا إلا لإدراكها أن المجتمع الذي يتعاطاها لا يرى فيها غضاضة بل يعتبرها حقاً، وأن محاولة منعها سيقود لصراع مع المجتمع هي في غنى عنه، والحكومة التي لا تهتم بنظافة الشوارع، تعلم أن شعبها لا يعتبر النظافة أولوية قبل مظاهر أخرى كالنقاب مثلاً، والدولة التي تقمع معارضيها وتزج بهم في السجون وتعدمهم بالتخوين والتكفير، لها نظير في مجتمع يقمع الأفراد الذين يشذون عن "القطيع" لنفس الدعاوى، فيعاقبهم باستغلال ثغرات القانون التي تبيح تقييد حريتهم أو بالاغتيال، وأقبية الأجهزة الأمنية التي يجرى فيها التعذيب النفسي والجسدي لها نظير داخل الأسرة التي تستخدم وسائلها في التعذيب النفسي والجسدي والحرمان ضد الأبناء والبنات لمجرد أنهم يريدون أن يكونوا مختلفين.
وهكذا فإن تغيير النظام السياسي في اليمن لن يفضي إلا إلى تغيير شكلي، بالإضافة إلى دولة غير مستقرة، فالمجيء بنظام سياسي له قِيَم تتناقض مع قِيَم المجتمع سيدفع بالنظام إلى تطبيق القمع على نطاق واسع لفرض قِيَم غريبة من قبيل المساواة وتكافؤ الفرص وحرية التعبير والاعتقاد، والشفافية، والنظافة، والسلوك المتمدّن.. إلخ، وهذا سيورث نقمة لها أثرها على الاستقرار السياسي.
وعليه، فإن التغيير إذا أُريد له أن يكون حقيقياً، فلن يكون إلا عن طريق خلخلة البنيان القِيَمي الحالي للمجتمع للتمكن من بناء قِيَم تجعل المجتمع مستعداً لنظام حكم شفاف وديمقراطي يرعى الحريات ويصون الحقوق ويُشيع المدنية، هذا لن يتأتى إلا بتغيير مناهج التفكير السائدة، وقد يصبح من المُلحّ القطيعة مع الموروث الذي يمثل حجر العثرة الحقيقي أمام تغييرٍ أصيل.
اليمنيون بحاجة إلى تغيير أنماط التفكير التي تتيح تسلل القيم الهدامة للبنيان الأخلاقي للمجتمع، حجر الزاوية في هذا هو تغيير الفقه الديني السائد، والسعي نحو فقه جديد زمنياً ومكانياً، جديد زمنياً بمعنى ألا ينتمي إلى فقه القرون القديمة، وجديد مكانياً بمعنى أن لا علاقة له بفقه مصر أو باكستان، أو السعودية أو إيران، بل فقه يمني حداثي معاصر لا يُغفل الحاجة البشرية للإيمان والتديّن كما لا يُغفل الهوية الوطنية ولا الجغرافيا ولا نظام العلاقات الدولية المعاصر، فقه يبحث عن المشتركات بين اليمنيين أنفسهم قبل أن يبحث عما يجمعهم بالأمة العربية والإسلامية.
هذا النوع من التغيير رغم أنه يستغرق عدة أجيال، ويكلف التنويريين الذين يسعون لتحقيقه حريتهم وحياتهم فيُعدمون أن يعيشون في السجون أو المنافي، فإنه الأكثر أثراً والأكثر قدرة على جلب الاستقرار السياسي المصاحب للتغيير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.