كيف تسيطر الدولة المصرية على الإعلام؟!

وسط هذا الاحتكار لوسائل الإعلام المختلفة، لم يجد المواطن البسيط بوقاً يستمد منه معلوماته وأفكاره غير بوق الأجهزة الإعلامية التابعة للدولة، بل إن الأمر تخطى ذلك، فلم تكن الدول العربية حديثة العهد بالاستقلال تمتلك من الخبرات والمقومات التي تؤهلها لإنشاء كيان إعلامي منافس، فكانت السطوة الإعلامية في المنطقة محتكرة بيد السلطة في مصر بكل ما تمتلكه من فنون وخبرات وأدوات.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/02 الساعة 01:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/02 الساعة 01:44 بتوقيت غرينتش

بنهاية عام 1954 كان العسكر قد أحكموا سيطرتهم على السلطة في مصر، ومنذ اللحظة الأولى اعتمد النظام على السيطرة على وسائل الإعلام التي كانت عنصراً أساسياً للسيطرة على الرأي العام في مصر والعالم العربي أيضاً لسنوات طويلة.

مع حلول عام 1960 الذي شهد دخول التلفزيون إلى مصر لأول مرة زادت قوة وقدرة الإعلام المصري في تكوين الرأي العام وتشكيله بالصورة التي ضمنت للنظام الحاكم البقاء في السلطة لأكثر من 60 عاماً، من خلال رسائل مباشرة يتم فيها تلميع النظام ورموزه من ناحية، وتحقير أعدائه من ناحية أخرى، مع دغدغة مشاعر البسطاء من خلال الأغاني والأفلام السينمائية، وبينما كانت المعتقلات تكتظ بالمعارضين ويُعتدَى على استقلالية القضاء وتجمد الأحزاب والحياة السياسية بصورة كاملة، نجد أن الشعب كان يرقص بكل سعادة وفخر على أنغام أغنية "ناصر يا حرية" وغيرها من الأغاني التي لم تنقطع إذاعتها على مدار اليوم.

وسط هذا الاحتكار لوسائل الإعلام المختلفة، لم يجد المواطن البسيط بوقاً يستمد منه معلوماته وأفكاره غير بوق الأجهزة الإعلامية التابعة للدولة، بل إن الأمر تخطى ذلك، فلم تكن الدول العربية حديثة العهد بالاستقلال تمتلك من الخبرات والمقومات التي تؤهلها لإنشاء كيان إعلامي منافس، فكانت السطوة الإعلامية في المنطقة محتكرة بيد السلطة في مصر بكل ما تمتلكه من فنون وخبرات وأدوات.

ومع رحيل ناصر وتولي السادات المسؤولية من بعده، وبعد تحرير الأرض وفتح المجال أمام تشكيل أحزاب سياسية، تم السماح لبعض القوى السياسية مثل الوفد والتجمع وغيرها بتأسيس صحف حزبية، لكنَّ أياً من هذه الصحف لم تكن منافساً للدولة المصرية، لضعف إمكانياتها وكذلك لإمكانية إغلاقها أو التضييق عليها إذا ما تجاوزت الخطوط الحمراء الموضوعة لها، وهو ما ورثه مبارك من بعد السادات أيضاً، وكان يستدل به أمام المنظمات الحقوقية الغربية بأن الدولة تسمح للمعارضة بالنقد وحرية التعبير أيضاً!

شهدت نهاية التسعينات نقطة تحول فارقة مع انتشار الفضائيات وأجهزة الاستقبال (الريسيفر) بشكل واسع حتى باتت في متناول الجميع خلال سنوات قليلة، وهو ما ساهم في كسر الحواجز وفتح باب التنافس المباشر بين جميع الفضائيات، سواء الخاصة أو الحكومية في كل الدول العربية، وبات المشاهد قادراً على أن يختار بين الفضائية المصرية أو اللبنانية أو إحدى القنوات الخاصة.

هنا، لعبت أموال النفط دوراً بارزاً في كسر احتكار مصر للإعلام، من خلال استقطابها لكثير من الكفاءات من مختلف الدول العربية، بل إن الأمر تخطى ذلك إلى الحد الذي وصل إلى تفريغ مصر من كثير من الكفاءات الإعلامية التي تتميز بها مقابل إغراءات مالية تزيد بأضعاف مضاعفة عن تلك الأموال التي بالكاد تدفعها الحكومة المصرية.

في ذلك الوقت كانت الفضائية المصرية تظهر بمظهر مثير للشفقة مقارنة بالفضائيات العربية الأخرى، لقد كان الفارق واضحاً بين قناة ما زالت تتعايش بأفكار الستينات وتعرض أفلام زمن الفن الجميل، مقارنة بتلك التي تلمع فيها الديكورات الباهرة وتعرض أحدث المسلسلات والأفلام العربية والأجنبية والبرامج الحوارية وغيرها.. إلخ.

كانت الصدمة مخزية وموجعة للحكومة المصرية؛ مما دفعها لإطلاق ما يعرف بشبكة قنوات النيل بحثاً عن استعادة الريادة المسلوبة، لكن المحاولة فشلت أيضا لعدة أسباب، أهمها الاعتماد على الكم في عدد القنوات التابعة لشبكة النيل على حساب الكيف! كما أنها لم تأتِ بجديد يذكر ولم تستطِع التغلب على الواسطة والمحسوبية والهيكل الإداري المتهالك المتوارث من ماسبيرو، فكانت النتيجة أشبه ما يكون باستنساخ للنموذج القديم في صورة أوسع لم تأتِ بجديد يذكر!

في هذه اللحظة تحديداً أدركت الدولة المصرية أنه لا بديل عن إشراك القطاع الخاص المصري في الصراع الإعلامي، فهم وحدهم من يملكون المال وتضمن الدولة أيضا ولاءهم وابتزازهم إذا ما خرجوا عن الدور الذي رسم لهم.

كانت البداية في عام 2001 بإطلاق أول قناة خاصة مصرية وهي قناة المحور، وبالطبع كان المؤسسون عدداً من رموز الحزب الوطني مثل رجل الأعمال حسن راتب وأبو العينين ومصطفى السلاب وحسام بدراوي وغيرهم، تلاها عدد من القنوات المصرية الأخرى مثل دريم وقنوات الحياة وأون تي في وغيرها، وعلى الرغم من امتلاك بعض الوجوه المعارضة لهذه القنوات فإن الدولة كانت تضمن عدم خروجهم عن النص من خلال مصالح كثيرة واستثمارات تربط مالكي هذه القنوات بالنظام.

وعلى الرغم من نجاح هذه القنوات في تقليص الفجوة الكبيرة بين الإعلام المصري والعربي وقتها، لكنها لم تستطِع إعادة السطوة المطلقة للإعلام المصري، ووقفت عاجزة عن المنافسة في عدد من القطاعات التي تحتاج إلى ميزانيات ضخمة، فمثلاً نجدها قد عجزت عن منافسة القنوات الخليجية في شراء حقوق بث المباريات الأوروبية، والمسابقات العالمية، كما عجزت أيضا عن إطلاق قنوات إخبارية تكون منافسة لقناة الجزيرة القطرية.

بعد سنوات من الصراع كانت القنوات الإعلامية المصرية مثقلة بالفوضى الإدارية وضعف رأس المال في النموذج الخاضع لسيطرة الدولة المباشرة، أما القنوات الخاصة فقد سئم ملاكها من الخسائر التي لحقت بهم في معركة لا تعنيهم بصورة مباشرة، مع العلم أن جميع القنوات الإعلامية في مصر، سواء الخاصة أو الحكومية، تخرج ميزانيتها خاسرة بنهاية العام، وبات إقناع أو تخدير الشارع المصري الغاضب واليائس من حكومته درباً من دروب الخيال.

ومع اندلاع ثورة يناير/كانون الثاني سقطت ورقة التوت الأخيرة عن الإعلام المصري، لكن المفاجأة الحقيقية كان في السقوط الفاضح والمدوي لوسائل الإعلام الخاصة التي كانت تظهر بمظهر معارض في كثير من الأحيان لكسب المصداقية لدى المصريين؛ لتظهر بمظهر مُخز وهي تحاول منع النظام المترنح من السقوط بشتى الوسائل الممكنة.

أدرك فلول النظام السابق أنهم خسروا المعركة، وأنهم كانوا مخطئين عندما تجاهلوا الإعلام، فهو الحامي الأول لما جنوه من ثروات، وهو أيضاً القادر على إخراجهم من وراء القضبان وربما حبل المشنقة أيضاً، فلم يبخلوا في إنشاء قنوات جديدة باستثمارات أكبر وأضخم تكون قادرة على خوض معركة جديدة، يكون الهدف منها إعادة السيطرة على الرأي العام في مصر، لكن وعلى الرغم من النجاح الذي تحقق، فإن هناك الكثير من المعضلات والمشكلات الكامنة التي لا تزال مطروحة في الساحة الإعلامية المصرية، التي يعلم العالمون بخباياه بأنه لا يعمل ككتلة واحدة، حتى وإن بدا للوهلة الأولى كمعسكر يصطف فيه الجميع في حرب شرسة ضد دول أخرى وذلك لعدة أسباب:

1- لأنه لا يخضع لسيطرة الحكومة بالكامل، فهو خليط بين أجهزة إعلام مملوكة للدولة ورجال الأعمال، وإن تقاطعت المصالح فهذا لا يعني تطابقها.

2- بالنظر إلى خيوط هذا النسيج سنجد بداخله إعلاميين تختلف وتتنوع توجهاتهم وأفكارهم ونظرتهم ومصالحهم بصورة أشد تعقيداً مما يظن الجميع.

وإذا نظرنا عن كثب سنكتشف أن ملاك هذه القنوات يدفعون هذه الأموال لأسباب متباينة تتنوع بين رفع الضرر أو زيادة النفوذ أو "تحميل الجمايل" للسلطة الحاكمة، التي تعلم بدورها علم اليقين أن كل هذه المليارات لا تدفع دون مقابل.. ويظل المقابل عبئاً ثقيلاً في ظل محاولة الدولة تقليص النفقات وتحجيم الفساد الذي التهم خزينة الدولة وجعلها غير قادرة على سد العجز في موازنتها إضافة إلى تلبية مطالب شعب يغلي ما بين الجوع والفقر ومطالب الحرية والعدالة والمساواة.. إلخ.

على الجانب الآخر تمتلك الدولة الكثير من مفاتيح الضغط على هذه الوسائل الإعلامية التي يتنوع العاملون فيها وتختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم، ولا تميل الدولة للضغط مباشرة على الإعلاميين والصحفيين كي لا تجد نفسها وجهاً لوجه في مواجهة الإعلام وقضية الحريات التي تسبب صداعاً خارجياً للنظام، ولكنها تميل للضغط على رجال الأعمال وابتزاز مصالحهم المالية المستقبلية أو القديمة "المشبوهة"، فتكون النتيجة ضغط رجل الأعمال على الإعلامي أو الصحفي العامل لديه ويكون الخيار مفتوحاً أمام الإعلاميين، فإما أن يخفف من حدة لهجته تجاه النظام أو أن يجلس في منزله ليرتاح ويريح الجميع مثلما حدث مع كثير من الإعلاميين.

لكن وبعد ثورة يناير/كانون الثاني وما تبعها من أحداث انتهت بما يعرف ثورة 30 يونيو/حزيران أو انقلاب 3 يوليو/تموز، أصبح هناك اقتناع راسخ لدى الدولة المصرية بوجوب التحكم في وسائل الإعلام بصورة كاملة، غير مكتفين بسيطرة رجال أعمال موالين لهم عليها، وهو ما ظهر جلياً من خلال التسريب الذي نشر للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ويتحدث فيه عن وجوب خلق أذرع إعلامية للمؤسسة العسكرية، وهي الخطوة التي بدأت بوادرها تتجلى من خلال سيطرة الأجهزة الأمنية على الشبكات التلفزيونية الكبرى في مصر تحت مسمى شركات وهمية يمتلكها في الظاهر بعض رجال الأعمال، ولكن ملكيتها الحقيقية تعود للدولة، إلى الحد الذي وصل إلى وصول شخصية قيادية مرموقة في الجيش "المتحدث العسكري السابق" إدارة إحدى القنوات التلفزيونية.

في ظل كل هذه الظروف تظل الحياة الإعلامية في مصر محاصرة بين السلطة ورأس المال، ولن تتغير المعادلة أبدا إلا بتغير الروابط والمصالح التي تربط السلطة برأس المال، والذي يصعب أن يدخله دخيل ثالث بينهما، فلا الدولة ستسمح لرأسمال معارض بالعمل بحرية في مصر، ولا سيقدم رجال الأعمال على مغامرة حمقاء ضد الدولة تضع ممتلكاتهم وأعناقهم في خطر معها. وتبقى الحالة الوحيدة التي يمكن أن تتغير فيها المعادلة هي تكسير روابط المصالح بين الطرفين وتحويلها إلى علاقة تنافر بدلاً من علاقة التجاذب التي يعيشها الاثنان على مدار 20 سنة وحتى يومنا هذا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد