مضى يومان، وأنا مشبوح في غرفة الموت، والأصفاد كانت قد دخلت في لحم يدي، عندما أدخلوا ذاك الرجل الأربعيني بالأمس فجراً عارياً من كل شيء.
علَّقوه بالسقف من رجليه على غير عادتهم. كان يرتعد بشدة، لقد أدرك، بحكم أنه ضابط، ما الذي سيفعلونه به بعد قليل، دخل اثنان منهم يحملان كبلين للدبابات، وتبعهما واحدٌ منهم، يحمل قطعة من سلك معدني شائك من النوع الذي نراه على الحدود بين الدول.
أمسكه أحدهم من شعره، وقال له: "شو، سيادة المقدم، بحياتك شفتو لـ(الله)؟ هلق بدك تشوفو شخصي".
كانت عيونه تبكي، من دون أن يحركَ ملامح وجهه. يبكي بكبرياء لم أرَ مثلها في كل لحظات اللقاء مع الموت. كنت عاجزاً إلى درجة أني لم أستطع حتى البكاء معه.
أمسك المساعد السلك الشائك، وبدأ يلفهُ حول كبل الدبابة، حتى غطى الكبل كاملاً، فصار شكل الكبل مع الأسلاك الشائكة كوجه الموت الزؤام. وكنت قد سمعت عن آلة لِحام الحديد، ورأيت أناساً أحرقوهم بماكينة لحم الحديد. لكني لم أكن قد رأيتها أبداً قبل تلك الليلة.
دخل أحدهم، وأدخل معه آلة اللِحام. وصلها بالكهرباء. بدأت أرتجف. وكانت حركتي تزيد ألمي؛ لأن الأصفاد كانت تحتك بلحم يديَ.
كبَّلوا له يديه للخلف. كانت أول ضربة هوت على جسده العاري بالكبل الذي كانوا قد وضعوا عليه السلك الشائك، فصرخ صوتاً كأن الأرض قد صرخت معه! وفي كل ضربة كانت تقع على ظهره، كانت الأشواك الحديدية تنغرس بجسده، فيشدّها المساعد المسخ، مقتلعاً بها كل ما تحمله معها من لحمه الطاهر.
وعندما كان الكبل ذو الأسلاك الشائكة يصادف معدته، كانت الأشواك الحديدية تغوص بلحمه، إلى درجة أن المساعد كان يشدّها مرتين، لتخرج وتأخذ معها قطعاً من جسده الذي كان كالوطن، يعطيهم دمه وأجزاءه، وهم يقطّعونه بأيديهم.
اقترب المساعد الثاني، وطعنه بآلة لحام الحديد، فثقب له كتفه كلها، فبدأ يتقيأ دماً. وكأن مشهد الدم كان يغريهم، فزادوا عليه بالكبل على كل أنحاء جسده! وهو يصرخ: "يالله يالله ما لي سواك يالله! يالله ساعدني، يارب". وما زلت أسمع صوته حتى هذه اللحظة… اقترب المسخ بآلة اللِحام، وطعنه بكتفه الثانية بقضيب اللحام، فثقب له كتفه الأخرى. فأغمي عليه، وصمت تماماً.
ذهب أحدهم، وعاد ومعه عصا الكهرباء. كان المسؤول عن التعذيب هو المساعد أول نصر إسبر.
قال لهم: "يالله، صَحوه… ما بيطلع من هون غير عالقبر. بدي صوتوا يوصل لعند الله". "بدي جربها على هادا سيدي".
كنت أقرب معتقل له. نظر في عينيَّ وقال: "إذا بتراجع وبتوسخ الأرض بعدمك هون، فهمت ولا كلب (يا كلب)، لسا بروح وبرجع بشوفك بخلقتي. ما بقى تموت ولا حيوان".
كنت أنتفض، وأنا معلَّق وأرجوه ألا يفعل. لم أترك شيئاً لم أتوسل به له، لكن القدر أبى إلا أن أواجه مصيري في ذاك اليوم. ضحك واقترب مني وصعقني بها في ركبتيّ. أردت أن أصرخ، لكن شيئاً ما شَلَ فمي. شعرت كأن أحداً ما أدخل سكيناً في نقي عظامي، وكأن قلبي قد انفجر، وتجمدت عيناي، ولم أعد أرى بهما. كانت الثواني تمر كأنها سنوات. وجاء الألم أقسى من الجوع، وأعمق من الطعن، وأبعد بكثير من قدرة البكاء.
يا وطناً يحكمه الغرباء!
شهقت ولم أعد أقوى على التنفس، فبدأ يصفعني على وجهي، حتى عدت وشهقت من جديد. سمعته يقول لي: "طلع (أنظر) فيني هون ولاك، طلع فيني هون". لم أكن أراه، حتى أنظر إليه. كنت ألتفت إلى الجهة الخطأ، فيصحح لي جهة رأسي بالكبل الذي أمسكه بيده الأخرى.
سألني: "شو اسمك، شو اسمك ولاك عرصى؟"
قلت له: "أنا الرقم 1646 سيدي".
قال: "بعرف، بس شو اسمك ولاك، احكي".
قلت له: وائل سيدي، وائل الزهراوي سيدي.
فقال: "أيوه، وهي لسّاك (ما زلت) متذكر اسمك. أنا، أصلاً، كل الدارسين حقوق بحبن…
ثم أمسك الكبل الذي يقطر من دم المقدم، ومسحه برأسي، يريد أن ينظفه، وقال لي: "أصلاً كلكن دمكن متل بعض، دم وسخ".
وكم كان ما فعله عظيماً، وكم كان فعلاً جميلاً من مسخ قبيح لا يعي كل ما أشعر به أبداً. وكم فرحت أني أحمل بعضاً من دم ذاك الضابط الشهيد. فقطرات الدم تلك تساويهم جميعاً عندي. وفي عمق ذاك الألم، كنت أتساءل عما يشعر به، وربع لحم جسده قد وقع تحت رأسه.
سكبوا على المقدم وعاء من الماء. وما إن بدأ يصحو حتى صعقه المسخ بعصا الكهرباء في ظهره الذي لم يبقَ فيه جلد يغطي عموده الفقري. وزادوا عليه بكبل الدبابة. وبدأوا يضربونه على رأسه، والكبل الملفوف بالأسلاك الشائكة اقتلع نصف فروة جمجمته.
يا وطناً سقيتك من دمي!
يا كل بقع الدم، اصرخي! يا أيتها الجدران تكلمي! أخبري كل هذا العالم ماذا جرى هناك، وماذا فعلوا بنا.
يا وطناً سقيتك من دمي، وأعطيتك من لحمي وتقاسموك كالغنيمة، يا هتافاتنا التي كنت أرى فيها الحرية والإباء: أين اختفيت أين أين؟! وما لن أنساه حتى ما بعد الموت، كيف حاول في آخر لحظات حياته أن يثني جسده ويصل إلى الأصفاد التي كان معلقاً بها. كانت عيناه قد عميتا وورمتا إلى درجة لا توصف. ومع ذلك، يريد أن ينجو. بصق نصف أضراسه تحت رأسه، يحاول أن يقاوم الموت القادم لا محالة. ولكن، هيهات هيهات، ولات حين مناص.
ثقبوا له فخذه، وانغرس قضيب اللحام في عظامه، وأثقلوه بالكبل ذي السلك الشائك في أماكن الثقوب، وعلى رأسه، حتى غابت كل ملامحه، كما يغيب الوطن خلف أحقاب القهر، وكما يغيب الضوء، عندما ينتصر الظلام، وكما كنت أستسلم للموت، وأدعوه أن يأخذني من هناك ويأبى.
ورأيته كيف كان ُيمطر الأرض دماً، كأنه ينتقم من ظلمهم بنزفه. وشعرت بأن الكون كله يمطر دماً. كان صوت تساقط دمه يشبه صوت ارتطام أكداس الجثث، حين كانوا يرمونها بعضها فوق بعض، جثث أبناء الوطن.
المقدم الطيار 20-31، هذا رقمه واسمه وتاريخه وبطولاته وأطفاله وحياته. صرخ بكل قوته، ثم أسلم الروح هناك، هناك حين كنا نحب بعضنا إلى درجة أننا نُدفن معاً في مقابر جماعية.
بعد ساعة، كان دمه قد ملأ الغرفة، فكّوا أصفاده، فوقع على الأرض جثة لا يتحرّك، وسحبوه من رجليه، ليكون رقماً بين مئات الأرقام التي هي جبين الوطن وعزته وشرفه ورائحته.
في صباح اليوم التالي، أنزلوني. لم أكن أشعر بيدي، ولا أستطيع التحكم في كتفي مطلقاً. لبست سروالي الداخلي بعد 17 يوماً قضيتها عارياً. أدخلوني للجماعية الرابعة زنزانة المرضى.
عندما دخلت غرفة المرضى، كان عددنا 89 شاباً سوريّاً. بعد 10 أيام، أصبحنا 62. البقية قدموا أرواحهم لكم ورحلوا، تركوا لكم كل أحلامهم وصرخاتهم ورسائلهم ودمائهم ونظراتهم قبل الموت. وهبوكم أغلى ما لديهم واستشهدوا تحت التعذيب.
لعل الأمل فيكم لا يخيب.
ومن كان صاحب حقلٍ، فلا يتسول حفنة طحين. وبعد كل تلك الأرواح، كيف يمكن أن نتخيل أن هناك سوريّاً حرّاً يمكن أن يساوم على الدم، أو يقايض على العذاب!
وبعد أن كنت هناك، ما الذي يمكن أن يبقى من حياتي سوى أن أخلص لأولئك الأحرار في أغلالهم.
سأرتدي ملامحكم، يا رفاق العذاب. سلاماً عليكم أيها الشهداء الأحياء، سلاماً أيها السوريون الشرفاء.
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=380990942260670&id=100010493020715
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.