يا تونس الخضراء جئتك عاشقاً ** وعلى جبيني وردة وكتاب
من أبيات كتبها الشاعر نزار قباني عند زيارته لتونس سنة 1980، خلال مهرجان القيروان للشعر العربي، متغنياً بأصالة ذلك الوطن الصغير بجغرافيته، الكبير بتاريخه، ومنه انطلقت أول شرارة التمرد على أنظمة أصابها الصدأ والأمراض المزمنة؛ ليحتضن شارع بورقيبة الشهير أولى صرخات الحرية "بن علي هرب.. بن علي هرب".
كم كانت فرحة التونسيين كبيرة يومها! وكم هلل العالم القابع تحت أثقال الظلم والعبودية فرأوا في الثورة التونسية خلاصاً لهم من أصفاد الأحزاب والجماعات التي حكمت شعوباً بالحديد والنار!
لكن سرعان ما تغيرت الأحداث ليتفاجأ العالم بآخر تقرير نشرته صحيفة "ذا وول ستريت جورنال" الأميركية الصادرة في فبراير/شباط 2016 يبين عدد المقاتلين في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية؛ حيث أكد التقرير أن العدد الإجمالي لأعضاء الدولة الإسلامية وصل تقريباً إلى 27.995 مقاتل، 8.000 منهم من شمال إفريقيا، وتحتل تونس المركز الأول بعدد 6.000 مقاتل، بينما وصل عدد الملتحقين بصفوف داعش من منطقة البلقان حوالي 875 عنصراً، ومن دول الاتحاد السوفييتي سابقاً حوالي 4.700 مقاتل، بينما وصل العدد الرسمي للمنضمين للدولة الإسلامية من أوروبا الغربية إلى حوالي 5.000 مقاتل، ومن الشرق الأوسط عامة 8.240 مقاتلاً، أغلبهم من المملكة العربية السعودية؛ إذ بلغ عدد الملتحقين بصفوف القتال 2.500 سعودي، تبدو هذه الأرقام خيالية، وربما مخجلة ومحبطة للبعض، لكنها على أرض الواقع حقيقة ملموسة.
لكن كيف لدولة مثل تونس لم يعرف شعبها يوماً معنى التطرف وجل سكانها متعلمون أن تتربع دولتهم على قائمة أكبر مصدر للمقاتلين وأكبر صانع للقيادات القتالية في صفوف داعش؟ لمعرفة السبب الحقيقي وراء انضمام الآلاف من شباب تونس لهذا النوع من التنظيمات يجب أولاً أن نلقي نظرة سريعة على تاريخ الجماعات الإسلامية في تونس، التي ظهرت في أواسط الثمانينات؛ حيث واجهها نظام بن علي بالنفي إلى خارج البلاد، والسجن والإقصاء من المجتمع التونسي، حتى إنه منع الحجاب واللحى وكل مظاهر التدين، رغم أن الجماعات الإسلامية في بدايتها كانت مسالمة ومحدودة الأهداف، لكن سرعان ما بدأت في تبني العنف رداً على الاضطهاد والتشريد الذي مارسه نظام بن علي عليهم، فبدأت تلك العناصر تؤسس جماعات،
وتتبنى أفكاراً شاذة، فكانت البداية مع جماعة أنصار الشريعة، العقل المدبر لتفجير "معبد الغريبة" اليهودي سنة 2002، لكن بعد أن اشتد الخناق على تحركاتها تبنت "كتيبة عقبة بن نافع" مهام الجماعة السابقة، ثم ظهرت بعدها جماعات متطرفة جاءت بعد ثورة الياسمين، أهمها الجماعة التابعة لتنظيم الدولة، وجماعات أخرى كـ"جند الخلافة، وطلائع جند الخلافة"، في تونس، وكلها تنشط تحت راية واحدة وهدف واحد، هو ضرب الأمن والمؤسسات العسكرية في تونس وليبيا.
عادت جماعة "أنصار الشريعة" إلى الواجهة قبيل الثورة بقليل، وقدمت نفسها على أنها جهة خيرية تساعد وتدعم المحتاجين والمهمَّشين في المجتمع، واستطاعت أن تكسب ثقة الكثيرين، وتتغلغل في صفوف الشباب، حتى تمكنت من ضم العديد من المغدورين وإقناعهم بالتوجه إلى الجهاد في سوريا عبر منابر المساجد، وهنا أعود بالذاكرة قليلاً إلى الأسلوب الذي انتهجته الجماعات المتطرفة في بدايتها بالجزائر، خلال فترة ما قبل بداية العشرية السوداء بقليل؛ حيث قدمت المساعدات المادية أولاً للعائلات الميسورة، ثم جنَّدت العقول عبر ميكروفونات المساجد بنفس الأسلوب وكأنها مدرسة واحدة.
تلاحقت أحداث العنف في تونس، وفي كل مرة كانت إحدى الجماعات تتبنى العمليات في الوقت ذاته كانت نشاطاتهم مكثفة في ليبيا التي جُند معظم أمراء الجماعات المسلحة على أراضيها، وعلى يد مدربين من أصل تونسي.
السؤال المحير دائماً: لماذا تونس بالذات؟ مَن وراء هذا التجنيد؟ ما هي الأسباب الخفية التي أسهمت في تجنيد أولئك الشباب؟ وكيف تمت عملية التنقل إلى مناطق النزاع؟ تلك أسئلة لا يبدو أننا سنجد لها إجابات مقنعة في الوقت الحالي على الأقل، لكننا نستطيع أن نحدد بعضها بشكل مبدئي:
أولاً: الفقر والتهميش الاجتماعي
وصل معدل الفقر في تونس إلى 15%، لكن الفقر ليس عاملاً مقنعاً للالتحاق بأخطر التنظيمات وأكثرها بطشاً في الوقت الراهن، بالإضافة إلى أن هناك دولاً أخرى تصل نسبة الفقر فيها إلى أكثر من 40%، ومع ذلك قل ما نسمع عن انضمام شبابها إلى تلك الجماعات.
ثانياً: البطالة
في إحدى المقابلات التي أجراها رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي مع أحد المواقع البريطانية، أكد أن البطالة لعبت دوراً مهماً في توجه الشباب التونسي نحو البحث عن مصدر رزق بديل، خصوصاً بعد أن وجد ما يقارب نصف مليون شاب مقيم في ليبيا وجدوا أنفسهم بلا عمل بعد عودتهم إلى تونس.
ثالثاً: الخلل الأمني
مع أن السلطات التونسية قامت بضبط الحدود البرية مع ليبيا، ومراقبة حركة المسافرين عبر المطارات، إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرين من محاولة السفر إلى الأراضي السورية، فقد قامت السلطات التونسية بمنع حوالي 1.500 شاب وشابة من السفر كإجراء وقائي، ولكن مع ذلك لا تزال هناك ثغرات أمنية على الحدود مع ليبيا يستغلها البعض للخروج من تونس باتجاه سوريا والعراق.
رابعاً: الكبت والانتقام
قامت الجماعات المتطرفة في تونس بلعب دور كبير في تجنيد هؤلاء الشباب في صفوف داعش، واستغلت كل النفوذ والطاقات المادية والمعنوية لتحقيق ذلك، بعد أن تهيأت لها الظروف للعمل بكل حرية، تلك الجماعات نفسها التي عانت من الكبت والاضطهاد في فترة الرئيس بن علي الذي يتحمل جزءاً مهماً وكبيراً جداً من المسؤولية في وقوع الشباب المغرر بهم بسبب سياسة تغييب الدين بشكله الحقيقي المبني على المحبة والتسامح من كافة مظاهر الحياة الاجتماعية في تونس، مما خلق عند الكثيرين فهماً خاطئاً ومغلوطاً، بعد أن استولت الجماعات المتطرفة على عقول الكثيرين فأقنعتهم بأن التطرف هو السبيل إلى الجنة، فحل القتل والهمجية محل المحبة والتسامح.
خامساً: الموقع الجغرافي
سهل الموقع الجغرافي لتونس على تلك الجماعات عملية التحرك بحرية مع الجارة ليبيا التي تعد المقر الرئيسي للذخيرة والأسلحة ولأهم الجماعات التي تخطط وتصدر الأوامر لتنفيذ العمليات داخل وخارج التراب التونسي.
تحدث الرئيس الأسبق لتونس منصف المرزوقي عن الحلم الذي راود الشباب التونسي طويلاً، الذي أصابه الإحباط الشديد بعد ثورة الياسمين، فقد كان يطمح أن يجني ثمار صبره على نظام سقيم، وعلى ضياع ثورة حقيقية، فوجد ضالته في الحلم بالخلافة الإسلامية التي، وحسب اعتقادهم، قد تستجيب لمطالبهم التي تاهت في واقع انتهج الوحشية والقتل، فماتت أمانيهم ورغباتهم على يد البغدادي ورفاقه، لكن يبقى الأمل كبيراً أن يجد أحفاد جامعة الزيتونة التي أنجبت خيرة علماء الأمة يوماً ما الطريق الذي سيعيد أبناء الخضراء إلى حضن الوطن، الذي يغفر زلات أبنائه كأم تقسو لتحنّ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.