قرار ترامب

بعد تصريحاته أجمع الكثير من السياسيين -بمن فيهم نائب الرئيس الحالي (بينس)- على أن قراراً بحظر المسلمين جميعاً سيكون غير دستوري؛ لأنه يعارض صراحة التعديل الأول في الدستور الأميركي الذي ينص على حرية التدين، ويعارض أيضاً قوانين الحقوق المدنية التي تنص على منع أي تمييز أو عنصرية ضد الآخرين بناء على الأصل أو العرق أو الدين.

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/27 الساعة 00:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/27 الساعة 00:56 بتوقيت غرينتش

خلال حملته الانتخابية وعد دونالد ترامب بأنه سيقوم بحظر دخول جميع المسلمين إلى الولايات المتحدة الأميركية، وتطاول كثيراً، خلال فترة حملته الانتخابية، على الإسلام والمسلمين، صرح آنذاك بأنه من الصعب جداً أن نفرق بين الإسلام والجماعات الإسلامية المتطرفة، فالإسلام يكرهُنا، وأعداد كبيرة من المسلمين ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية والاعتداء على الولايات المتحدة، وحتى لو افترضنا وجود أبرياء من المسلمين، فإنهم مشاركون في جرم حماية الإرهابيين المتطرفين بينهم، ورفض ترامب في مرات كثيرة أن يخفف من حدة لهجته العدائية هذه.

بعد تصريحاته أجمع الكثير من السياسيين -بمن فيهم نائب الرئيس الحالي (بينس)- على أن قراراً بحظر المسلمين جميعاً سيكون غير دستوري؛ لأنه يعارض صراحة التعديل الأول في الدستور الأميركي الذي ينص على حرية التدين، ويعارض أيضاً قوانين الحقوق المدنية التي تنص على منع أي تمييز أو عنصرية ضد الآخرين بناء على الأصل أو العرق أو الدين.

لذلك بعد فوزه في الانتخابات الأميركية أراد ترامب أن يجد طريقاً آخرا يكون مقبولا قانونياً؛ لكي يستطيع حظر أكبر عدد من المسلمين من دون أن يُسمى "حظراً للمسلمين"، أصدر ترامب في يوم 27 يناير/كانون الثاني قراراً رئاسياً بحظر دخول اللاجئين عموماً لمدة مائة وعشرين يوماً، وحظر دخول اللاجئين السوريين بتاتاً، وبإيقاف دخول مواطني سبع دول إسلامية (هي: سوريا، وليبيا، واليمن، والسودان، والصومال، والعراق، وإيران) لمدة تسعين يوماً قد يتم تجديدها لاحقاً، وأعلنت إدارته في أول الأمر أن هذه مجرد بداية، وأن دولاً أخرى قد تُضاف لاحقاً لقرار الحظر.

كانت الأمور غير واضحة في مدى تفسير القرار، ومتى يتم البدء بتنفيذه، بعد صدور القرار الرئاسي مباشرة تواصلت سلطات الحدود والجمارك مع البيت الأبيض، فجاء رد مستشار الرئيس اليميني المتطرف جداً (بانون)، الذي يُعتقد أنه العقل المدبر وراء هذا القرار، بأن القرار يجب أن يُنفّذ حالاً، وأنه يشمل حتى أولئك الذين وصلوا إلى المطارات الأميركية ويحملون معهم تأشيرات دخول سارية المفعول، سواء كانت للهجرة أو للدراسة أو للزيارة.

وبالفعل تم إيقاف كثير ممن كانوا في المطارات من مواطني الدول السبع، هنا ثارت ثائرة الكثير من الشعب الأميركي واتجهوا للمطارات في مظاهرات كبيرة ضد القرار مطالِبين بإخلاء سبيل الموقوفين، وفي ملحمة عظيمة انساقت أعداد كبيرة من المحامين والمحاميات إلى المطارات الكبرى في البلاد، وصاروا يعرضون خدماتهم بالمجان للمتضررين من هذا القرار، نتيجة لذلك استطاع المحامون ومؤسسات المجتمع المدني الشهيرة وعلى رأسها اتحاد الحريات المدنية (UCLA) كسب قضية في محكمة فيدرالية في بروكلين نيويورك بإيقاف مؤقت لقرار الترحيل لمن كانوا في المطارات وإدخال من يحملون تأشيرات صالحة للبلاد.

في يوم 29 يناير/كانون الثاني أعلنت وزارة الأمن الداخلي أنها لن تطبق هذا القرار على حاملي البطاقات الخضراء (الإقامة الدائمة) رغم رفض المستشار بانون الذي كان يرى أن الحظر يجب أن يشملهم، في يوم 30 يناير/كانون الثاني أقال ترامب النائبة العامة (وزيرة العدل) المكلفة بعد رفضها الدفاع عن قراره ووصفها له بأنه غير قانوني وغير دستوري، بحلول يوم 1 فبراير/شباط كان أمام المحاكم الدستورية أكثر من 20 قضية مرفوعة من خمس ولايات وعدد من الأفراد.

في الولايات المتحدة للمحاكم حق النظر في أي قانون أو قرار رئاسي من ناحية دستوريته من عدمه ومن ثم بقاء تفعيله أو إيقافه، بمعنى أنه لو وجدت المحاكم (انتهاءً بالمحكمة العليا) أن القانون أو القرار غير دستوري، فإنه يسقط ولا يستمر تنفيذه.

حكومة ترامب في هذه القضية تستند إلى قانون فيدرالي يعطي الرئيس الصلاحية بمنع دخول أي أشخاص يكون في وجودهم خطر على مصالح الولايات المتحدة، لغة قراره حاولت أن تتجنب ذكر الإسلام والمسلمين، إلا أن ذلك لن يمنع المحاكم من النظر في مدى عنصرية القرار ضد المسلمين؛ لأنه يحق للمحاكم أن تنظر حتى للدوافع من وراء القرار، هناك أكثر من طعن دستوري وقانوني الآن أمام المحاكم الأميركية ضد قرار ترامب، ولكن لا يتسع المقال هنا لبسطها.

الحكم الأقوى ضد قرار ترامب صدر من قاضٍ فيدرالي (القاضي روبرت) في مدينة سياتل في يوم 3 فبراير/شباط، الذي قضى بإيقاف مؤقت لتنفيذ القرار على مستوى أميركا كلها، هذه القضية كانت مرفوعة من قِبل ولايتي واشنطن ومينيسوتا ضد الحكومة الفيدرالية.
وبعد صدور حكم القاضي روبرت بساعات أعلنت وزارة الخارجية والأمن الداخلي إعادة العمل بكل التأشيرات المسحوبة، وكأن قرار ترامب لم يكن، حاولت حكومة ترامب بعد ذلك استئناف الحكم مباشرة بطلب طارئ لنقض الإيقاف إلا أن محكمة استئناف الدائرة التاسعة رفضت وأعلنت أنها ستستمع للمرافعات بشأن نقض الإيقاف بداية الأسبوع المقبل.

السؤال المحدد الذي كان أمام محكمة الاستئناف هو: هل يجب على المحكمة إيقاف تنفيذ حكم الإيقاف المؤقت الذي أصدره القاضي روبرت؟ وبعد سماع المرافعات في القضية حكمت محكمة الاستئناف بإجماع قضاتها الثلاثة بإبقاء حكم الإيقاف المؤقت الذي أصدره القاضي روبرت، وعلى هذا سيستمر إيقاف العمل بقرار ترامب حتى تقرر المحاكم مدى دستورية القرار من عدمه مما قد يستغرق وقتاً، وقد لا يُنهي الجدل فيه إلا المحكمة الفيدرالية العليا.

بعد صدور حكم محكمة الاستئناف للدائرة التاسعة زاد حَنق ترامب وغرّد في تويتر مهدداً بقوله سوف أراكم في المحكمة (يقصد المحكمة العليا)، رد عليه محامي ولاية واشنطن بقوله: رأيناك حتى الآن مرتين وهزمناك في المرتين! لكن يبدو من تصريحاته الأخيرة أنه يفكر الآن في أن يتراجع عن رفع القضية التي خسرها أمام محكمة الاستئناف إلى المحكمة العليا حالاً، ربما لأنه تيقن أنه سيُهزم هناك أيضاً أو أنه ربما كان من الأسهل له أن يخطط لإصدار قرار آخر يكون أكثر إمكانية في تخطي العقبات القانونية. ولكن لا تزال كل الخيارات مفتوحة، وبغض النظر عن النتيجة النهائية لهذا القرار أو غيره، فإن الحراك الشعبي والقانوني بلا شك قد قلّص فرص نجاح القرار بمدى الشمول والاتساع الذي كان يطمح له ترامب ومناصروه ابتداءً، فمع كل يوم يمر مع هذا الحراك الكبير تحاول إدارة ترامب أن تضيّق تفسير القرار، وربما تقوم بإعادة صياغته وحذف بعض مواده في المستقبل لتزداد فرص نجاحه في المحاكم.

****
هنا دروس سريعة يجب أن نعرّج عليها ونتأملها، خروج الألوف في أميركا وفي دول غربية أخرى رافضة ومنددة بهذا القرار ويرون أنه قرار عنصري ضد المسلمين يجب أن نحترمه ونقدره.

بغض النظر عن وجود من استغل الحدث لأهدافه إلا أن الكثير ممن خرجوا كان خروجهم قضية مبدئية وأخلاقية.

تدرك شرائح كبيرة من الشعوب في الغرب أهمية الحراك الشعبي ومؤسسات المجتمع المدني وسلطة القانون، وأنها قادرة على التغيير والتعديل، ولذلك تمارس رفضها الاعتداء على الحقوق حتى لو كان الضرر لا يطالها هي.

يدرك هؤلاء تماماً أنهم متى ما سمحوا بإضعاف سلطة القانون والدستور في بلادهم فإنه وإن لم يكونوا متضررين الآن فسينالهم الضرر يوماً ما. هذا الشيء ربما يصعب فهمه على كثير ممن لا يعرف معنى سلطة القانون أصلاً، ويؤمن بأن كل ما يحدث في العالم مجرد مؤامرات.

الحكمة ضالة المؤمن، ولا بد أن نكون أهل عدل ومروءة، ونعترف أن للغرب جوانب فيما يخص احترام سلطة القانون والعدالة ومؤسسات المجتمع المدني والوعي الشعبي يجب أن يُستفاد منها، نستطيع أن نأخذ الكثير من خير الحضارة الغربية كما أخذ أسلافنا كثيراً من خير الحضارات التي سبقتهم؛ لنتجاوز عقدة المفاصلة في كل شيء فليس كل من في الغرب مُبغضٌ للمسلمين، وليس كل ما في الغرب مَعيب.

المَعيب والمضحك المبكي في آن واحد أنه وفي الوقت الذي كانت تخرج فيه الألوف في الغرب منددة بالقرار، طار بعض العرب والمسلمين فرحاً بعد صدور قرار ترامب بأن دولته لم تكن من ضمن الدول التي طالها الحظر وبادر بعد ذلك بمنع من هم حوله مِن أن ينتقدوا القرار إما بدعوى أنه "لا دخل لنا"، أو أنه يحق للرئيس (كما تعود أن يرى في بعض البلاد) أن يمنع من شاء من دخول البلاد بلا حدود ولا قيود ولا قانون ولا دستور، أو أن القضية مجرد مؤامرة كبيرة لا نفقهها نحن!

في نفس الوقت الذي كان كثير من المحامين في أميركا يملأون ساحات المطارات وردهات المحاكم مناهضين للقرار، تسابق "محامون" و"حقوقيون" عرب، مع الأسف الشديد (ومع عدم معرفتهم بالقانون الأميركي وقبل أن تحكم المحاكم الأميركية في القضية) ليقولوا بأن ما قام به قانوني، وأنه يحق له منع من شاء من الدخول، هؤلاء المحامون يغيبون غالباً عند الاعتداء على حقوق العرب والمسلمين بدعوى عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. هنا بالطبع عندما أرادوا اتخاذ هذا الموقف الشجاع لم يروا بأساً من التدخل في شؤون الدول الأخرى!

بل تجاوز الأمر هذا ليصل إلى أنه وفي خضم هذا الحدث، وبدعاوى وجود أسباب أخرى، يطلب بعضُ "المثقفين" من الشعوبِ العربية أن تشكر الرئيس ترامب والذي لا تزال خطاباته وخطابات أعضاء إدارته العنصرية البغيضة ضد الإسلام والمسلمين حيّة وقائمة.
جُلْتُ في الفكر للحظات، وتخيلت لو أن أحد رؤساء الدول العربية أو الإسلامية صرح مرات متعددة بأن مشكلة بلاده الحقيقية هي مع النصرانية المتطرفة، وقال إن الكثير من النصارى متطرفون، وانتقد من يؤمن بالشريعة النصرانية، وعيّن أشخاصاً في إدارته يشتمون النصرانية كدين، ثم اتخذ قراراً عنصرياًي منع مواطني دول نصرانية من دخول بلاده، هنا ماذا سيحدث؟ هل تتوقعون بأي شكل من الأشكال أن يقوم رمز في إحدى هذه الدول ذات الأغلبية النصرانية بشكر رئيس هذه الدولة (لأي سبب من الأسباب)، ويدعو أفراد شعبه لمشاركته في شكر الرئيس وإدارته المعادية للنصرانية والنصارى وفي نفس الوقت الذي يهاجم فيه هذا الرئيس دينهم وأهلهم!!! وحتى لو حصل هذا فكيف ستكون ردة الفعل الشعبية تجاه هذا الشخص؟!

لا أعلم لماذا أتذكر الآن قول غازي، رحمه الله:

أيها القوم نحن متنا فهيا ** نستمع ما يقول فينا الرثاءُ
قد عجزنا حتى شكا العجز منّا ** وبكينا حتى ازدرانا البكاءُ
وركعنا حتى اشمأز ركوعٌ ** ورجونا حتى استغاث الرجاءُ
وارتمينا على طواغيتِ بيتٍ ** أبيض ملءُ قلبه الظلماءُ
أيها القومُ نحنُ متنا ولكن ** أنفت أن تضمنا الغبراءُ

لن أكمل القصيدة..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد