إن الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تمخر عباب الأنظمة العربية في المرحلة الراهنة قد أثقلت كاهل المواطن العربي، لكنه يدرك أن الخوض في غمار ذلك الإبحار كأنه بلا سفينة، والشعور بأن الوصول محال، ولذلك تظل القيمة المعنوية للإرادة في حالة من الغياب الفعلي؛ لأنها في مرحلة اللاوعي بما يدور في أروقة السياسة ودهاليز الاقتصاد.
وتسعى الأنظمة إلى توجيه مسارات تلك المرحلة، لعلها تفرض إطارها المعني بتقديم النموذج المفضل لتطور المجتمع الإنساني، والبحث عن روافد جديدة للعولمة.
وهذا ما جعلها تتجه نحو "أدلجة العولمة" التي تصبو إلى احتواء كل أنشطة الإنسان، وممارساته، وعلاقاته، وأفكاره وقيمه ومعتقداته، وأمور تنميته وصحته وشغل أوقات فراغه، بالإضافة إلى كل ما يتعلق بالسيادة والهوية وحقوق الأقليات والملكية الفكرية، وبذلك نجد أن المفكر محمد عابد الجابري يشير إلى "أن العولمة ليست آلية من آليات التطور الرأسمالي، بل هي أيضاً، وبالدرجة الأولى، أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم".
ولذلك يشير المفكر المصري محمد سعيد العشماوي في كتابه الشهير "الإسلام السياسي"، بالقول: "تدخل السياسة إلى العقيدة حتى تحولها إلى أيديولوجيا"، وهذا ما يعكس سيطرة السياسة، وليس جوهر الدين، مما جعل بعض المفكرين يتجهون نحو الثقافة المحلية بتنوعها، وعلاقتها مع تيار الثقافة السائدة بصفتها روافد له، مما يعني أن الثقافات ليست كيانات متفردة بشكل سابق على أي توالٍ لها، ثم جرى بعث الحياة في أسمائها؛ لتغدو مجرد تصنيفات، بل "هي كيانات يعتمد تفردها على عمليات خطابية معقدة ترتبط بالأجندات السياسية".
وفي إطار ذلك الفهم الجدلي حول أهمية المكون الديني ضمن مكونات الثقافة، تطرح قضية جديدة تثير القلق بخصوص تأثير الدين في السياسة؛ حيث تطرح هذه القضية تأثير السياسة على الدين.
فهناك بعض الكُتاب المعاصرين، مثل محمد سعيد العشماوي، شعروا بانزعاج شديد من تسييس الإسلام، وعلى الرغم من تجنب العشماوي لمصطلح علماني، فإن موقفه يبنى على أساس إيمانه الكامل بأن الدين، وخصوصاً الدين الإسلامي، يتعامل على نحو جوهري مع الروحانية البشرية، وليس مع السياسة، وقد ذكر العشماوي في تسعينات القرن الماضي أن المجال السليم للدين هو ما يتعلق بالضمير، وأن الخصائص المغيرة للعقيدة تتأتى من الداخل، وفضلاً عن ذلك، فإن الطبيعة الأساسية للدين هي عالمية وشمولية، بينما جوهر السياسة "محدود أو قبلي ومقصور على المكان والزمان".
من هذا المنطلق، لا يمكن أن يتم فرض الإيمان بالقوة، ولذلك فإن تعريف التوجه السليم لله ليس اختصاص مشروع لأي حكومة، وعلى نهج جون لوك وروغر وليامز، كان العشماوي يؤمن بأنه من الأفضل فصل السلطات الدينية عن السلطة السياسية.
وفي ظل تلك الإرهاصات الفكرية تاهت المعرفة الدينية الحقة والعميقة وسط جلبة ذلك الجدل الذي سئمناه بين العلمانيين والمفكرين الدينيين، فموقف الفكر العلماني من الدين ما زال يشوبه التشويش والاضطراب متشبثاً بأفكاره التي لا يمكن اجترارها، فيما يخص علاقة الدين بالمجتمع، وقد ظن خطأ، كثير من أصحاب هذا الفكر، أن ما ينادون به فصل الدين عن الدولة، لا يعني انفصال الدين عن حياة جماعته، فأغلبية النظريات الاجتماعية الجادة، على اختلاف منطلقاتها، تولي اهتماماً كبيراً لدور المكون الديني في أداء المنظومة المجتمعية الشاملة.
ويرتكز افتراضهم الأساسي على أنه من دون الدين لا يمكن أن تكون هنالك أي قاعدة قياسية للحياة السياسية، وبالتالي تندثر الفضيلة والأخلاق.
وهذا ما يُشكل البعد النفسي والاجتماعي أثناء التفكير بعقد اجتماعي جديد "دستور جديد"، والإرهاصات الفكرية المؤيدة أو المعارضة أو المناهضة لذلك من منظور المشاركة الشعبية أو المجتمعية في الاستفتاء على أي مشروع دستوري في البلدان التي تشهد مرحلة انتقال سياسي ديمقراطي، تكون فيه المشاركة السياسية ضمن فقه أولويات إدارة هذه المرحلة وما بعدها، مما قد يجعل من الاختلاف الأيديولوجي في الشكل وليس في المضمون!
* للتأمل:
في وطنٍ معطل الطاقات والأحلام
ماذا يفيد أن تغير اسمه؟!
أو أن تعيد ترتيب الشهور والأعوام
إن شئت تغييراً وتصحيحاً
عليك بتغيير النفوس والرؤوس
لا بتغيير الرتوش والهندام
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.