"وتؤكد وزارة الأوقاف على جميع السادة الأئمة الالتزام بنص الخطبة أو بجوهرها على أقل تقدير مع الالتزام بضابط الوقت ما بين 15 و20 دقيقة كحد أقصى، واثقة في سَعة أفقهم العلمي والفكري، وفهمهم المستنير للدين، وتفهمهم لما تقتضيه طبيعة المرحلة من ضبط للخطاب الدعوي"، كان ذلك النص المنشور على صفحة بوابة الأوقاف الإلكترونية لجمهورية مصر العربية، وقد صرح الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، في مؤتمر سابق بحضور عدد من شيوخ الأوقاف، على رأسهم أسامة الأزهري مستشار الشؤون الدينية لرئاسة الجمهورية، بأنه لا يوجد نص شرعي يمنع الخطبة المكتوبة كما أن تلك التجربة الجديدة -تجربة الخطبة الموحدة المكتوبة- تحكمها مصلحة شرعية وطنية.
تناولت خطبة جمعة سابقة موضوع الأمن الغذائي حمايته وحرمة التلاعب به، وقد تناولت الجمعة السابقة لها النظافة سلوك إنساني متحضر، لا أحد ينكر أهمية تلك الموضوعات، ولكن هل خطبة الجمعة هي المكان المناسب لتلك الموضوعات التي لا ترتقي إلى حصص مادة القيم والأخلاق في المرحلة الابتدائية.
عند الاستماع إلى تلك الخطب الخاوية الجوفاء تشعر كأنك تستمع إلى أحد برامج التليفزيون لإحدى القنوات الإقليمية التابعة لماسبيرو، فهي لا تصل إلى أن يتم عرضها على قناة النيل التخصصية أو حتى قناة النيل للأسرة والطفل إن كانت لا تزال تبث أصلاً.
فخطبة الجمعة تختلف عن أي خطاب آخر، فهي شعيرة من شعائر المسلمين، والمسلم يستشعر فيها طاعة الله -عز وجل- وتختلف عن أي ندوات أو محاضرات دينية أخرى، فحكمها الشرعي يجعل الحضور والإنصات وعدم التغافل عنها أمراً واجباً.
فإن لم تكن تلك الخطبة لتحريك العقول وبعث الثقة في النفوس والنهوض بأمر الأمة وإيقاظ الهمم وشحذ العزائم وتبصير المسلمين بحقائق دينهم وعقيدتهم فلمَ تكون؟
الحكومة والخطاب الديني
ودعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في احتفالات المولد النبوي الشريف لعام 1436هـ، إلى القيام بثورة دينية وتجديد الخطاب الديني؛ ليكون متناغماً مع العصر.
لكن حقيقة تلك الدعوة لم تكن إلا أن يكون الخطاب الديني متماشياً مع عصر النظام وليس عصراً آخر، وباتخاذ خطبة الجمعة نموذجاً، خطبة الجمعة التي تعد أهم خطاب ديني يوجه للأمة الإسلامية جمعاء تحول إلى ذراع إعلامية جديدة لا يزيد عن كونه نقلاً لما يقال على منابر ماسبيرو ومدينة الإنتاج الإعلامي إلى منابر المساجد، حتى إن البعض أصبح يتكهن بالخطبة بناء على الأحداث السياسية القائمة في البلاد ورسائل الحكومة، فمع ارتفاع الأسعار وكثرة الشكوى تكون خطبة الجمعة عن التكافل الاجتماعي والحديث عن التصدق، في إشارة من النظام وحثّه للمصريين على حل مشكلاتهم دون الاحتياج والرجوع للحكومة، وفي خطاب مبطن مفاده أن الحكومة لم تعد تُعنى بذلك الأمر، وأن على المصريين التكيف مع الوضع.
ديستوبيا على الطريقة المصرية
وصرح أسامة الأزهري، مستشار الشؤون الدينية لرئاسة الجمهورية، بأن "الهدف من تلك الفكرة -الخطبة الموحدة- هو تخليص الخطاب الديني من الخطاب السياسي"، على حد قوله، ولكن هل حقاً تم تخليص الخطاب الديني من الخطاب السياسي؟!
في خطبة الـ27 من يناير/كانون الثاني، أي في ذكرى الثورة، تكون الخطبة بعنوان "الحفاظ على الأمن وأثره في تحقيق التنمية"؛ ليكون مفاد الخطبة وأساس حديثها أن "الأمن مقدم على طلب الطعام والشراب"، و"أن أهم عوامل تحقيق الأمن في المجتمع هي تلاحم أبنائه مع حماة أمنه البواسل"، تلك الجمل السابقة هي من نص الخطبة التي من السهل الاطلاع عليها على موقع وزارة الأوقاف، وكأن مبارك المخلوع يخطب بنا ويقول الجملة الشهيرة: "أنا أو الفوضى".
الحكومة المصرية قد أعلنت صراحةً أنها سوف تستخدم علماء النفس والتنمية البشرية للإشراف على كتابة خطب الجمعة بمشاركة علماء دين من الأزهر والأوقاف، وكأن من يكتب خطبة الجمعة ليس الأئمة وشيوخ الأزهر، بل يتم إرسالها إلى وزارة الحقيقة الخاصة بجورج أورويل.
خطبة الجمعة.. وداعاً
حضور خطبة الجمعة واجب، ولا يجوز لأحد أن يترك حضور خطبة الجمعة عمداً، ولا يأتي إلا عند إقامة الصّلاة، فإنّ فعل ذلك فهو آثِم، وعليه التّوبة والمبادرة والتّبكير في الحضور، وصلاته صحيحة.
ولكن هل أكون آثماً عند تركي الاستماع لبرنامج توك شو تلفزيوني لا ينفك عن الحديث عن إنجازات الرئيس وضرورة التحمل من أجل الوطن، ووجوب التضحية من أجل حرب وهمية مع إرهاب مصطنع، هل يجب عليّ أن أحضر خطاباً دينياً ببغائياً لا يرتقي إلى أدنى درجات المنطق ويُحدث مستمعيه كأنهم صمٌّ بكمٌ عميٌ لا يفقهون في أمور دينهم ولا دنياهم؟!
لن أستمع إلى خطب الجمعة ما بقي الحال كما هو، وإذا ساورني الفضول فسوف أقوم بتحميلها قبلها بعدة أيام من على موقع وزارة الأوقاف؛ لأعرف نصها ومحتواها، ولننتظر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.