إننا نحن البشر نعتقد دائماً أن السعادة تكمن في تحقيق أحلامنا، ولكن ماذا بعد؟! البعض يعتقد أن سعادته في جمع المال، وبعدما يتحقق هدفه وتمتلئ حساباته بالبنوك بالأموال الطائلة، ويصبح مليونيراً أو حتى مليارديراً، فماذا بعد؟ هل أصبح سعيداً حقاً؟!
ومنهم من يعتقد أن سعادته في تحقيق حلم آخر، وهو امتلاك العقارات والأراضي والقصور والسيارات الفارهة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وبعدما يتحقق حلمه فماذا بعد؟ هل أصبح سعيداً حقاً؟!
ومنهم من يعتقد أن سعادته تتحقق عندما يتزوج مثنى وثلاث ورباع من الجميلات من النساء الحسناوات، وينجب العديد من الأولاد من البنين والبنات فماذا بعد؟ هل شعر بالسعادة حقاً؟!
ومنهم من يعتقد أن سعادته تكمن في الحصول على منصب كبير بالشركة التي يعمل بها، أو مركز مرموق بالمجتمع الذي يعيش فيه، أو يكون وزيراً أو حتى رئيس جمهورية فماذا بعد؟ هل تحققت سعادته المنشودة حقاً؟!
ومنهم من يعتقد أن سعادته الحقيقية تتحقق عندما يذهب إلى عمله كي يعيش ويؤدي صلواته الخمس، ويصوم ويزكي ويعتمر ويحج، إذا استطاع لذلك سبيلاً، ولكن ماذا بعد؟ هل حقاً بعد تنفيذ كل هذه الفروض والطاعات لله، قد حصل على السعادة التي يحلم بها؟!
سيسأل أحدهم الآن ماذا تقصد وتريد بكل هذه الأسئلة؟ وهل كل هذه الأعمال غير مشروعة وحلال شرعاً؟ فالإجابة نعم، وحلال شرعاً، ولكنها لا تُحقق السعادة الحقيقية المنشودة، لأننا نحن البشر لم نُخلق كي نعيش بهذه الدنيا لنأكل ونشرب ونتزوج وننجب ونجمع المال ونصلي وننام، ثم نموت!!
ليست هذه وظيفتنا في الحياة فقط، ولكن خلقنا الله كي نحقق ما أمرنا به، وهو عبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وهنا مربط الفرس كما يقولون، وهي كيفية العبادة المرجوة من بني البشر بالطبع، ليس كما ذكرت آنفاً من صلاة وصوم وعبادة، وعمل دنيوي من أجل المال وتحقيق الأحلام أعلاه، وإنما هي البصمة، أي أن تترك بصمةً على هذه الأرض المباركة، التي خلقها لنا الله جل في علاه، كي نعيش عليها وننعم بها، بصمة تتذكرك بها هذه الأرض، وبصمة تتذكرك بها هذه السماء التي تعيش تحتها.
لأنك أخي الحبيب، أختي الحبيبة في الله، عندما تنقضي حياتنا بهذه الدنيا سوف يتركك مالك الذي جمعته، ومعه أملاكك كلها من أراضٍ وعقارات وغيرها مما تمتلك، ويأخذه ورثتك، ويمكن أن يتناحروا من أجله مع بعضهم البعض، وينعموا بما جمعت أيها المسكين بدنياك طوال عمرك، ولن يذكروك إلا أياماً معدودة وتُنسى، إلى أن تقابل خالقك وتحاسب عليه، من أين جمعته، وفيما أنفقته، وهذا ينطبق على كل أحلامك التي حققتها من أجل أن تكون سعيداً، ولن يبكي عليك أحد غير هذه الأرض التي عشت عليها، وهذه السماء التي أظلتك طوال حياتك بالدنيا.
(فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين)، [الدخان]، فهذه البصمة التي عليك أن تتركها بحياتك قبل مماتك، وتعيش من أجلها لتحقيق السعادة الحقيقية بالدنيا قبل الآخرة، هي الأخلاق والمعاملة، فالدين المعاملة، أي معاملة البشر من حولك بما يرضي الله ورسوله صَلى الله عليه وسلم، سواء زوجتك أو أولادك ووالديك (وبالوالدين إحسانا) جيرانك بالمسكن، وكذلك زملاؤك بالعمل، حتى بالشوارع والطرقات، إماطة الأذى عن الطريق، وإفشاء السلام والمحبة بين الناس دون تفرقة، ورحمة الضعيف والصغير، وتوقير الكبير، حتى الرحمة بالحيوان سواء قط (هرة) أو كلب أعزكم الله، وجميعنا يعلم قصة معاملة هؤلاء التي كانت سبباً في دخول الجنة بسقياهم ماء فقط.
والمعاملة الطيبة الحسنة مع كافة البشر، سواء أكان هذا البشر أبيض أم أسود، مسلماً أم غير مسلم، نشر السلام بين جميع خلق الله، ورفع الظلم عن المظلوم، وردع الظالم عن ظلمه (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى نصبح كما أرادنا الله خيرَ أمة أخرجت للناس، ليس هذا فحسب، فالبصمة -كل هذا فضلاً عن معناها الحقيقي المفصل- أن تترك سيرة ذاتية لك بهذه الدنيا قبل مماتك تنتفع بها البشرية، وتتذكرك قبلها السماء والأرض، وتبكي عليك حقاً، لأنك رحلت وتركتها بهذه الأعمال الطيبة.
وعلمك الذي ما زال ينتفع به خلق الله من بعدك، كي تترك كتاباً أو شريطاً دعوياً مثلاً (علم ينتفع به)، أو تعلم أولادك وبَنَاتِك تعليماً شرعياً على الأخلاق الحسنة، وحسن معاملة الآخرين، حتى يدعو لك بعد مماتك (أو ولد صالح يدعو له)، أو تترك عملاً ينتفع به البشر من بعدك وأثناء حياتك، مثل حفر بئر تزرع منها، أو برادة مياه للشرب بالطريق العام، لوجه الله، أو زرع شجرة يستظل بها البشر من حرارة الشمس، وينتفعون بثمارها إذا كانت لغير الزينة… إلخ.
الأعمال التي تنفع الناس وتدر عليك الحسنات وأنت وحيد بقبرك، ويوم الحشر تنتظر حسنة واحدة تكون قد عملتها بدنياك، يرحمك بها الله عز وجل يوم العرض عليه، (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)، وعمل صالح في هذا اليوم العظيم المهيب، فضلاً عن رضاه علينا وقتها، تبغي مرضاته بهذه الأعمال الصالحة ليرضى عنك، وهذا هو الفوز العظيم، وهذه هي السعادة الحقيقة المنشودة، أعمال تعملها لإرضاء ربك كي يرضى عنك، وعندما يرضى عنك ربك فقد حيزت لك الدنيا والآخرة، وسعدت بالدارين إن شاء الله.
فلا مال ولا عقار ولا ذهب ولا فضة، ولا ولد ولا زوجة حتى لا والد ولا والدة، سيتركك الجميع ويرجع إلى مشاغله الدنيوية، ويلتهي عنك، ويلتهمون كل ما جمعت في دنياك من جميع ما حلمت به، واعتقدت أنك ستصبح سعيداً به، ولكن هيهات هيهات، هذه هي الحقيقة، وهذه هي السعادة الحقة، التي إذا حققتها أو حققت بعضها كما يتيسر لك بهذه الدنيا الفانية (كل ميسر لما خلق له)، حسب استطاعتك، ستكون عملت حقاً لآخرتك الباقية، التي هي الحياة الحقيقة الخالدة، التي سوف نعيشها جميعاً رضينا أم أبينا، وهي الدار الآخرة (يا ليتني قدمت لحياتي)، هذه الحياة إما أن تكون حياة خالدة بنار جهنم، أعاذنا الله وإياكم، وإما حياة النعيم بجناته الخالدة الباقية، التي فيها الخير كله، مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً.
والأهم من هذا كله، مشاهدة الخالق جلَّ في علاه، وهذه أكبر منزلة في الجنة، وأجمل أمنية سوف تتحقق إن شاء الله، وهي رؤية وجهه الكريم، سبحانه جل في علاه، وهذه هي السعادة الحقيقية التي لا تساويها مليارات من كنوز الدنيا ولا حتى كنوز الآخرة، رؤية الخالق عز وجل، اللهم حقق لنا هذه الأمنية الغالية جميعاً برحمتك يا أرحم الراحمين، حتى نكون حقاً من السعداء في الدنيا والآخرة.
أتمنى من الله عز وجل أن ينشر كل من يقرأ هذه المقالة بنية صدقة جارية، لينتفع الناس بها، بل أتمنى منكم أحبائي في الله العمل بما فيها إن شاء الله، كي نتقابل جميعاً بإذنه تعالى بجناته، جنات النعيم، ونجاور حبيبنا ورسولنا وقدوتنا محمد، صَلى الله عليه وسلم، ونشرب من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً.. آمين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.