ماذا لو اختفت جهة الشرق، واختُصرت من الحياة، ثم باتت الأرض بثلاث جهات فقط، بحيث لا توجد أيّ بوصلة على وجه الكوكب تشير إلى جهة تُسمى الشرق؟ فماذا لو كان الشرق الأوسط، الذي صار بؤرة للصراعات والأزمات السياسية والاجتماعية، طبعاً لحسن الحظ أن عملية حذف الجهات والتلاعب بها غير ممكنة، وإن كانت ممكنة فهي ليست من اختصاص البشر، لذلك أيها السادة، ماذا لو تحول الشرق الأوسط بعد فترة زمنية ما، إلى دولة اتحادية عظمى؟
لنبدأ بتحليل تلك النبوءة التي ستعتمد بشكل أساسي على الفيزياء، ولأن الربط بين الفيزياء وعلم السياسة والاجتماع غير منطقي من وجهة نظر الكثيرين، فسأعتبر أني أستند في تلك الفرضية إلى الفيزياء المُسلية.
أريد التنويه إلى أني لن أدعم فرضيتي بالنظريات الاجتماعية أو السياسية التي تفسر حركة المجتمعات وصعود الأمم وهبوطها، كما لن أتطرق إلى مواضيع مثل الصراع الطبقي أو غيرها، كل ما في الأمر أني سأقوم بتحليل الواقع بطريقة تعتمد على الخيال والطاقة.
ما الطاقة؟:
هي القُدرة التي تملكها المادّة لإعطاء قوى قادرة على إنجاز عمل مُعيّن، كما أنّها المَقدرة التي يمتلكها نظام ما لإنتاج الفاعليّة أو النّشاط الخارجيّ، وهي الكيان المُجرّد الذي لا يُعرَف إلا من خلال تحوّلاته، أيّ إننا لا نرى الطاقة بالعين المجردة، ولكننا نرى تأثيرها والتحول الذي تصنعه. بالإضافة لهذا، إن الطاقة هي إحدى صور الوجود؛ لأن الوجود، وبحسب النظرية النسبية لأينشتاين، مُكون من مادة وطاقة، ضمن نظام معين يخلق بينهما هذا التوازن الذي نراه في الكون.
الفرضية:
إن أساس هذه الفرضية هو مفهوم "تمجيد الألم" بكل ما يحتويه من قهر ومعاناة واضطهاد واستلاب وسلب، ثم تحليل هذا المفهوم بطريقة فيزيائية من خلال قانون الطاقة الذي ينص على أنّ "الطاقة لا تفنى ولا تُخلق من العدم؛ بل تتحول من شكل إلى آخر"؛ أيّ إنه من المستحيل أن نحصل على كمية من الطاقة من لا شيء، ومن المستحيل أن يكون لدينا كمية من الطاقة ثم تتحول إلى لا شيء، هذا القانون هو أحد المسلمات الأساسية في علم الفيزياء بكل مجالاتها واختصاصاتها، ما يهمني من هذا القانون هو الجزء الثاني منه "الطاقة تتحول من شكل إلى آخر".
لنفترض الآن: أن مجموعة "المظالم الاجتماعية والسياسية والآلام العظيمة وأساليب القهر الفظيعة" التي مورست وتمارس على شعوب المنطقة خلال الفترة الزمنية الماضية والحاضرة، تراكمت داخل نفوس المضطهدين والمقهورين بشكل طاقة نفسية وذهنية كامنة، وبما أن الطاقة كمفهوم هي قُدرة تمتلكها المادة أو النظام لإنتاج نشاط معين، من ثم لا بد أن تتحول هذه الطاقة الكامنة داخل تلك النفوس إلى شكل آخر ذي نشاط ما؛ أيّ إنّ المادة التي تختزن الطاقة هي النفوس، والطاقة المختزنة هي مجموع تلك الممارسات الظالمة.
دعونا نطرح المثال التالي:
لنتخيل أن هناك شخصاً ما، عانى الألم والقهر والخذلان في حياته الشيء الكثير، وظلّ مُحتفظاً بجميع ذلك في نفسه على شكل طاقة كامنة، ثم قرر أن يكتب مذكراته ويذكر فيها جميع ما مرّ فيه، الأمر الأكيد أنّ هذا الشخص مهما حاول فلن يستطيع أن يبوح بكل ما يدور في عقله وصدره دفعة واحدة، يجب عليه البدء كلمة كلمة وجملة جملة وفصلاً فصلاً، أيّ لا بد من تفريغ هذا الكم من الذكريات تدريجياً خلال فترة زمنية مناسبة، وإن عملية التفريغ هذه هي العملية التي تتحول فيها الطاقة الكامنة المختزنة بداخله إلى نشاط آخر حركي، حتى عندما تكتمل عملية التفريغ سنحصل على كتاب مذكرات كامل منسجم في أفكاره وفصوله. إن الشرق الأوسط هو ذلك الرجل، الذي تلقى ضربات طويلة من القهر والألم والخذلان عبر أجيال عدّة، تحولت لطاقة كامنة في نفوس أبنائه.
العملية الإنتاجية للفرضية وعلاقتها مع الزمن:
علينا أن نُدرك أهمية الزمن هنا، فهو من أهم العوامل التي نستطيع من خلالها الحكم على أيّ ظاهرة فيزيائية؛ ببساطة لأن هذه الظاهرة غير موجودة إن لم تخضع لعامل الزمن.
ظاهر الأمر أنّ هذا الشرق بدأ منذ فترة بالتعبير عن ألمه وقهره وكمية الظلم التي عاناها، أيّ لقد بدأ بتحويل تلك الطاقة الكامنة المتراكمة بداخل نفوس سكانه إلى نشاط حركي ومن ثم شكل طاقي آخر، لكنه بدأ التعبير عن هذا المكنون الضخم من الطاقة بأسلوب فوضوي وعبثي في أغلب الأحيان؛ ربما لأنه قرر أن يُخرج ما بداخله من طاقة ذهنية كامنة دُفعة واحدة، وهذا غير ممكن إطلاقاً، كما أنه أحد الأسباب التي أحدثت هذا الضرر كله الذي شاهدناه وما زلنا نتابعه.
هذا الأسلوب غير المُنظم لن يستمر بهذا الشكل؛ لأن الزمن سيأخذ دوره بتهذيب هذا الضخ والانتقال العظيم من شكل طاقي كامن إلى آخر حركي، سيفهم الشرق نفسه وينسجم في حركته، من خلال التجارب والخبرات التي ستجعله أكثر وعياً وفهماً وقوة، سيعلم الشرق أنّ عليه ممارسة عملية الدفع بطاقته الكامنة للخارج بالتدريج وكأنه يدفع ثمن عظمته القادمة بالتقسيط، هذا ليس أمراً طوعياً أو شيئاً يختاره، لا أبداً؛ بل إنها الآلة الحياتية التي ترفض الفناء وتدفع بنفسها إلى الاتجاه الذي يسبب لها الصلاح.
استثمار الألم:
ما سنحصل عليه بالمحصلة، هو نتيجة استثمار جميع هذا الألم والقهر والمعاناة التي يعانيها أبناء هذه المرحلة بالذات، هم من سيحوِّلون مع الزمن هذا الشكل الفوضوي إلى شكل أكثر ترتيباً ووضوحاً وتهذيباً. هذا لن يتم بجلوسهم على طاولة واحدة ووضعهم استراتيجية عمل خلال العشر سنوات المقبلة.
بل إن الأمور ستأخذ منحىً يراه المراقب الخارجي غير مترابط ولن يثمر، ولكن داخلياً تحدث تلك التقاطعات العظيمة، رغم المؤثرات الخارجية والداخلية التي تسعى للسيطرة على هذه الطاقة الكامنة، ربما يستطيعون تحويل بعض دفقاتها إلى شكل آخر مناسب لهم، إلا أنه من غير الممكن استيعابها كلها دفعة واحدة، كما أنهم لن يجرؤوا على التعامل معها بشفافية، نظرتهم لها هي نظرة إنكارية، كمن يعلم بالشيء ولكنه ينكر وجوده.
غاية الحياة:
ما الحياة أيها السادة؟ ما حياة كل واحد فيكم غير أنها مجموع خياراته، التي اختارها بإرادته أو فُرضت عليه أو كانت أحد أقداره، من ثم فالحياة الجمعية التي نعيشها ونتشاركها، هي مجموع مجموعة تلك الخيارات الفردية لكل واحد فينا، أي إنّ حياة الشعوب هي مجموع خيارات أبنائها، وبما أن الفرد هو الحالة الفردية من الشعب، من ثم لا بد من تقاطع أحد أو بعض خياراته مع خيارات الشعب، لنعتبرها تلاقي مصالح أو مصالح مشتركة بين الأفراد.
العملية الانتقالية التي بدأت من خلال تحوُّل الطاقة المحفوظة في النفوس، كانت إحدى ثمار تلك التقاطعات، لذلك إن الأمر الأساسي الذي يحدد مستقبل المنطقة، هي تلك التقاطعات العظيمة التي تحدث بين الخيارات الفردية والشعبية.
لماذا الآن؟
إن الوجود، بحسب نسبية أينشتاين، مُكون من مادة وطاقة، ومن المستحيل أن توجد مادة ما، تستطيع تخزين الطاقة إلى ما لا نهاية، لا بد من أن تتحول تلك الطاقة إلى شكل آخر حتى يبقى الوجود محافظاً على توازن معادلة المادة والطاقة، وهكذا النفوس في هذا الشرق لقد اعتبرناها المادة التي خزنت كميات كبيرة من القهر والألم والذل، من المستحيل أن تستمر في التخزين للأبد، لا بد أن تصل لمرحلة تبدأ فيها بتفريغ تلك الطاقات النفسية الكامنة، التي امتلكتها بسبب هذه المنظومة الدولية والمحلية التي مارست القهر والإذلال عليها وعلى غيرها من الشعوب الضعيفة مسلوبة الإرادة.
هذه المنظومة الدولية والمحلية لن تستمر، سوف تتغير إلى شكل آخر، أيضاً بشكل تدريجي وليس دفعة واحدة؛ لأنها استنزفت طاقتها الحركية ونشاطها وحوّلته إلى قهر وذل احتفظت به النفوس في وجدانها "عملية معاكسة"، ثم عندما بدأ المكان داخل النفوس ينفد، انفجر، وخرجت تلك الطاقة مجدداً، ولكن بشكل آخر، وهذا الشكل الآخر في شرقنا سينسجم ويتناغم ويثمر دولة عظيمة خلال فترة زمنية مناسبة ولكنها ليست بعيدة، أعتقد أننا نحن أحد أجيالها.
أنا لا أجزم بذلك طبعاً، ولكني أظن أن هذا أحد السيناريوهات التي قد تحدث، عندما تحلل الفيزياء الواقع وتتنبأ بالمستقبل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.